This post was originally published on الإندبندنت عربية

<p class="rteright">أدت موجات الجفاف المدمرة وحرائق الغابات في أستراليا إلى دفع قضية تغير المناخ إلى الواجهة في الأجندة الانتخابية (رويترز)</p>
تقترب أستراليا من موعد انتخابي وطني بعد أسابيع قليلة، وقد شهدت الحملة الانتخابية واحدة من أبرز لحظاتها خلال مناظرة تلفزيونية جرت الأسبوع الفائت، فزعيم المعارضة بيتر داتون الذي سئل عما إذا كان التغير المناخي على صلة بتردي الظروف المناخية والأحوال الجوية القاسية في أستراليا، أجاب قائلاً “كيف لي أن أعرف؟ أنا لست عالماً”.
وبالنسبة إلى دولة عانت حرائق غابات غير مسبوقة وفيضانات مدمرة ودرجات حرارة آخذة في الارتفاع، فإن رفض داتون الإقرار بهذه العلاقة لم يكن مجرد تهرب بل كان موقفاً خطراً، وقد كشف عن أمر أعمق وهو انزلاق نحو نوع من إنكار أزمة المناخ وسياسات التأجيل التي باتت سمة مميزة لنهج دونالد ترمب.
في الواقع لن يصوت الأستراليون في الثالث من مايو (أيار) المقبل على من سيقود البلاد فقط، بل على نوع المستقبل الذي يريدونه، مستقبل قائم على التحول نحو الطاقة النظيفة بدأ بالفعل بقيادة رئيس الوزراء أنتوني ألبانيز، أم انحراف نحو الوقود الأحفوري وخطة نووية على طريقة ترمب قد تستغرق أكثر من عقد حتى تُنفذ.
وعلى رغم أن داتون يتمتع بالذكاء الكافي لتجنب إنكار تغير المناخ بصورة صريحة، وسارع إلى تصحيح تصريحاته بعد موجة الانتقادات، فإن سياسة الطاقة التي يقترحها مستقاة مباشرة من مبدأ المماطلة في تنفيذ السياسات المناخية.
وبالفعل ينوي هذا الأخير إنفاق 380 مليار دولار أميركي (286 مليار جنيه إسترليني) لتحويل أستراليا التي تنعم بالشمس والرياح أكثر من أي بلد في العالم إلى الطاقة النووية، وهذا كله من دون بناء أي مفاعل نووي، أقله على امتداد 12 عاماً، وفي هذه الأثناء تقضي خطته بضخ أموال عامة لتمديد عمر محطات الطاقة العاملة بالفحم، مما يزاحم مصادر الطاقة المتجددة.
وبعد مراجعة النماذج التي قدمها الحزبان الرئيسان أجد أن الفارق صارخ، وتقييمي يشير إلى أن خريطة الطريق التي يقترحها داتون ستؤدي إلى اعتماد أستراليا على الفحم بثلاثة أضعاف بحلول عام 2050، مقارنة بخطة الحكومة الحالية التي تعطي الأولوية للطاقة المتجددة وتقليص الانبعاثات.
بيد أن الخطر المحدق لا يهدد فقط مصادر الطاقة المتجددة، فخلال الحملة أشار داتون إلى أن أطفال أستراليا “يتعرضون لغسيل دماغ” في المدارس التي تعلمهم أزمة المناخ، بينما تحدث نائبه عبر أثير الإذاعة الوطنية عن احتمال خفض التمويل الممنوح للمدارس الحكومية التي تدرس علوم المناخ، ومن ثم كرر أعضاء حزبيون آخرون المواقف نفسها، محولين المجال التعليمي إلى جبهة قتال وسط حرب ثقافية مناخية متنامية في أستراليا.
ومن المعروف أن داتون عضو في البرلمان منذ أكثر من 24 عاماً، وقد قضى معظمها في معارضة سياسات المناخ أو عرقلتها أو تأخيرها، وأسهم في تفكيك أول نظام لتسعير الكربون في أستراليا عام 2014، وتقلد مناصب رفيعة خلال عقد من الزمن شهد اعتماداً كبيراً على الفحم خلال حكومتي توني أبوت وسكوت موريسون.
أما ألبانيز، فقد شغل على عكسه مناصب في حكومتي رود وغيلارد اللتين أطلقتا نظام تسعير الكربون [أداة اقتصادية تهدف إلى تقليل انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، من خلال فرض تكلفة مالية على التلوث الكربوني]، ومن منصبه كرئيس لمجلس الوزراء يسعى جاهداً إلى تسريع وتيرة تحول أستراليا [إلى الطاقة النظيفة] في موازاة إدارة اقتصاد شديد الاعتماد على الوقود الأحفوري، ومن ثم فإن حكومته ملتزمة بتغيير مصدر الإمداد بالطاقة الكهربائية في البلاد بعد أن كان بنسبة 60 في المئة من الفحم الحجري، ليصبح بنسبة 82 في المئة من مصادر الطاقة المتجددة بحلول عام 2030، وهو من أكثر الأهداف طموحاً في العالم.
والحال أن داتون وحزبه لم يكتفيا بالتخلي عن هدف خفض الانبعاثات بحلول عام 2030، إذ طرحوا علناً خططاً ترمي إلى تمديد حياة معامل الفحم الحجري، وزيادة الاعتماد على الغاز وحتى الانسحاب من “اتفاق باريس للمناخ” من أساسه، وقد اتضح الأسبوع الماضي أن “حروب المناخ” في أستراليا لا تزال في بداياتها، بل يبدو أنها بدأت تحتدم.
وفي الماضي كان يمكن للسياسيين أن يُنكروا تغير المناخ بصورة صريحة من دون أن يواجهوا عواقب سياسية كبيرة، لكن هذا الأمر الآن أصبح أكثر خطورة وصعوبة لأن الرأي العام الأسترالي بدأ يرفض الأسلوب الشعبوي الذي يشبه نهج دونالد ترمب في الإنكار والتهجم، فبعد انتخاب ترمب طالب كثير من أكبر المتبرعين للحزب الليبرالي الذي يترأسه داتون بحملة انتخابية شبيهة بتلك التي نظمتها وزارة كفاءة الحكومة الأميركية، ومن بين هؤلاء المليارديرة في قطاع التعدين جينا راينهارت التي يعتبرها داتون “صديقة عزيزة”، إضافة إلى مركز الأبحاث الممول بسخاء “أدفانس أستراليا” الذي يُعد جزءاً من شبكة أطلس الدولية، وهي آلة دعاية يمينية عالمية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي خطاب نهاية العام الماضي كان داتون قد وعد راينهارت، وكذلك عدداً كبيراً من أبرز شركات التعدين في البلاد بأن حكومته ستكون “أفضل صديقة على الإطلاق لقطاع الموارد في أستراليا”.
بيد أن داتون الذي كان في الماضي شرطياً متشدداً ويسعى اليوم إلى تليين سمعته، ويرى أن تراجع شعبية ترمب يصعب إلى حد كبير استنساخ السياسات التي يتسم بها هذا الأخير، وللتذكير كان [ترمب] قد وعد في إحدى مراحل حملته الانتخابية، بإلغاء 41 ألف وظيفة ووضع حد لعمل موظفي الدولة من المنزل قبل أن يعود بعد أيام ويتراجع عن الفكرة إثر موجة عارمة من التنديد الشعبي.
وبطريقة مماثلة كان تلميح حزبه بأنه مستعد للانسحاب من “اتفاق باريس للمناخ”، ناهيك عن تعليقات داتون حول التغير المناخي الأسبوع الماضي، قد دفعا هذا الأخير إلى تقديم توضيحات سريعة بعد أن أدرك أن الرأي العام لا يريد أية حملة انتخابية صاخبة كتلك التي أطلقها ترمب.
ومن ثم فإن داتون متكتم نسبياً عن سياسة الطاقة التي سينتهجها حزبه مما أثار تشكيكاً أكبر بكثير مما كان يأمل، وعندما طولب بوصف السياسة التي سيعتمدها بقي كلامه مبهما، وحاول تسليط الضوء على الكلف النسبية المتأتية عن الانتقال إلى الطاقة المتجددة بدلاً من إظهار تأييده المبطن لتمديد استخدم طاقة الفحم الحجري حتى عام 2050.
ومع أن سياسات داتون تعتبر إلى حد كبير مرآة للسياسات التي ينتهجها ترمب في الولايات المتحدة، فقد حاول في مداخلته الأخيرة التخلي عن دعمه الشرس للوقود الأحفوري في مسعى منه لتفادي نفور النساء في الضواحي والشباب ممن قد يكون لصوتهم أثر حاسم أكبر في الانتخابات المقبلة، مقارنة مع المجموعات [الناخبة] الأخرى.
لكنه أيضاً السبب الذي جعل المماطلة في تنفيذ السياسة المناخية تتحول إلى الأداة المفضلة بنظر عدد كبير جداً من اليمينيين في السياسة العالمية، فهي تعمل على تلطيف السياسات التي تسعى إلى تحقيق هدف كامن واحد وهو مواصلة اعتمادنا على الوقود الأحفوري لأطول وقت ممكن، وتقويض التوسع السريع للطاقة المتجددة بتحفيز من السوق وإضعاف السياسات التي تتأثر بالمسائل المناخية، وهو تحديداً ما رأيناه الأسبوع الماضي وما أتوقع أن أراه حتى موعد الانتخابات.
والحال أن داتون، شأنه شأن عدد كبير من اليمينيين على الساحة الدولية، لديه رؤية محددة لأستراليا تعد بإعادة عقارب الساعة للوراء، وتراهن بمستقبل البلاد بالاعتماد على إستراتيجية محددة لم تصمم لإنكار التغير المناخي كلياً، إنما لبث الشك في النفوس وتشتيت الاهتمام والمماطلة، وفي هذا الصدد يُطرح سؤال وحيد حول ما إذا كان الأستراليون سيقتنعون بهذا الأسلوب.