أميركا أمام فرصة تاريخية في الشرق الأوسط

This post was originally published on الإندبندنت عربية

<p class="rteright">&nbsp;مروحية تحمل رهائن أُفرج عنهم في إطار اتفاق وقف إطلاق النار بين "حماس" وإسرائيل خلال فبراير 2025 (رويترز)</p>

على مدى عقود عدة كان الشرق الأوسط مقبرة للطموحات الدبلوماسية، ففي الأقل منذ مغادرة الرئيس الأميركي جورج بوش الأب منصبه في أعقاب حرب الخليج، انتهى الأمر بالرؤساء الأميركيين إلى ترك المنطقة في حال أكثر خطورة مما كانت عليه عند توليهم السلطة، على رغم فترات وجيزة من التفاؤل في كثير من الأحيان. 

كانت لدى بيل كلينتون آمال كبيرة في التوصل إلى اتفاق سلام تاريخي بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وقد تمكن من تقريب الطرفين خلال “قمة كامب ديفيد” عام 2000، بيد أن رئاسته انتهت بانهيار المحادثات وبداية الانتفاضة الثانية الدموية، وبعد هجمات الـ 11 من سبتمبر (أيلول) على الولايات المتحدة نجح جورج دبليو بوش في الإطاحة بنظام صدام حسين في العراق تحت شعار تحويل المنطقة، لكنه سرعان ما وجد أن هذا المشروع تحول إلى مستنقع أودى بحياة آلاف الأميركيين وعزز نفوذ إيران، وقد سعى باراك أوباما إلى اغتنام فرصة الربيع العربي عام 2011، وعلى رغم أنه تفاوض على اتفاق نووي مع إيران لكن تطلعاته إلى إرساء الديمقراطية والتعاون الإقليمي تبددت بسبب انقلاب دموي في مصر وصعود تنظيم “داعش” في العراق واندلاع حرب أهلية مدمرة في سوريا.

أما دونالد ترمب فقد اعتقد خلال ولايته الأولى أن انسحابه من الاتفاق النووي الذي أبرمه أوباما وقتل قاسم سليماني سيقللان من التهديد الإيراني، ولكن عند مغادرته منصبه عام 2021 كانت طهران توسع برنامجها النووي وتستخدم وكلاءها لمهاجمة القوات الأميركية وجيران إيران، وأخيراً حرص جو بايدن الذي تعلم من الإخفاقات السابقة على تجنب الطموحات الكبرى، فركز على تحقيق الاستقرار في المنطقة لكنه وجد نفسه في عامه الأخير في الحكم منشغلاً بالكامل بتداعيات هجمات “حماس” على إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وما أعقبها من أهوال الحرب في غزة.

مع تاريخ كهذا قد يبدو من السذاجة تخيل أن يكون للشرق الأوسط اليوم أي دور سوى إثارة المتاعب للرئيس الأميركي الجديد، وإذا كان هناك شيء قد أثبتته الأعوام الـ 30 الماضية فهو أن الشرق الأوسط لا يمكن تجاهله على الإطلاق وهو لا يكف عن مفاجأة الجميع، ومهما بدا الوضع سيئاً فإنه قد يزداد سوءاً دائماً. ولكن على رغم المشكلات والأخطار الحقيقية التي تواجه المنطقة، فإن ترمب في الواقع يرث مجموعة من الفرص، وفي بعض النواحي قد يكون في وضع جيد للاستفادة منها، وهو أمر أقر به حتى بصفتي أحد أشد منتقدي ترمب ومستشاراً سابقاً للأمن القومي لنائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس، فإضافة إلى المشهد الإستراتيجي الجديد الذي ورثه فقد تمنحه تصرفاته غير المتوقعة نفوذاً في التعامل مع إيران وإسرائيل ودول الخليج وغيرها، وقد يتمكن من تمرير سياسات في الكونغرس مثل التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، وهو ما لم يستطع أي رئيس ديمقراطي فعله.

لكن ترمب قادر أيضاً، بلا شك، على زيادة مشكلات الشرق الأوسط بصورة فريدة، وقد بدأ في ذلك بالفعل من خلال قراره قطع المساعدات الأميركية الحيوية عن المنطقة ودعوته إلى ترحيل سكان غزة والاستيلاء عليها، وسيعتمد مصير الشرق الأوسط خلال الأعوام الأربعة المقبلة إلى حد كبير على ما إذا كان ترمب سيتمكن من استغلال هذه الفرص الإستراتيجية أو إضاعتها باندفاعاته ونزواته المتهورة.

صفقة جديدة

أول فرصة ورثها ترمب تتعلق بإيران التي كانت لعقود في صميم مشكلات الشرق الأوسط، واليوم تبدو طهران أضعف وأكثر عرضة للضغوط مما كانت عليه منذ الثورة الإيرانية عام 1979، فاثنان من أبرز وكلائها، وهما “حزب الله” في لبنان وحركة “حماس” في غزة، قد دُمرا عسكرياً، كما أن ترسانتها من الصواريخ الباليستية التي كانت لفترة طويلة بمثابة خط دفاع ثان إلى جانب أولئك الوكلاء أثبتت عدم فعاليتها ضد الدفاعات الجوية الإسرائيلية التي تدعمها الولايات المتحدة وغيرها من القوى الإقليمية، وأما سوريا، الشريك الإقليمي الرئيس لإيران، فلم يعد يحكمها حليفها بشار الأسد، بل تحالف مناهض لإيران حرم طهران من جسرها البري إلى لبنان، وعلاوة على ذلك أثبتت الدفاعات الجوية الإيرانية عدم كفاءتها في مواجهة الضربات الجوية الإسرائيلية خريف عام 2024 لدرجة أن إيران شعرت بضعف شديد للغاية دفعها إلى الامتناع حتى من محاولة الرد.

وفي الوقت نفسه فإن الاقتصاد الإيراني الذي دمرته أعوام من سوء الإدارة والعقوبات الأميركية والدولية وفترة من انخفاض أسعار النفط يعاني ضغوطاً هائلة، وهو وضع لا يمكن أن يشكل أساساً لمعالجة الثغرات الجديدة في قدراتها الدفاعية والردعية.

وفي ظل هذه الظروف الجديدة فليس من المستغرب أن القادة الإيرانيين قد بدأوا في الإشارة إلى انفتاحهم على اتفاق نووي جديد، لأن البدائل عن هذا الاتفاق باتت بالنسبة إلى إيران أسوأ من أي وقت مضى، وفي الواقع اُنتخب الرئيس مسعود بزشكيان عام 2024 على أساس برنامج يهدف إلى تحسين الوضع الاقتصادي، والطريقة الوحيدة الممكنة لتحقيق هذا الهدف هي إبرام اتفاق دبلوماسي مع الولايات المتحدة والحصول على تخفيف للعقوبات، وعلى رغم أن المرشد الأعلى علي خامنئي، المتشدد والمتشكك في المحادثات منذ فترة طويلة، يظل صاحب القرار النهائي، لكنه يدرك أن قدرة إيران على ردع الضربات العسكرية ضد برنامجها النووي أو بنيتها التحتية في قطاع الطاقة التي تعتمد على الوكلاء والضربات الصاروخية الباليستية ضد إسرائيل والدفاع الجوي المحلي، قد تضاءلت بصورة كبيرة، وكذلك يدرك القادة الإيرانيون أن استعداد الولايات المتحدة وإسرائيل لتنفيذ ضربات هجومية قد ازداد، بخاصة مع تصاعد جرأة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وترمب الذي لا يمكن التنبؤ بتصرفاته. 

وقد أبدى ترمب اهتمامه بإبرام اتفاق جديد، وقد يدفع المشهد الإستراتيجي المستجد إيران إلى تقديم تنازلات أكبر بكثير مما كان متصوراً في السابق، ومن بين التنازلات التي لم تكن ممكنة في الماضي لكنها قد تصبح كذلك اليوم، فرض قيود صارمة على مستويات تخصيب اليورانيوم ووضع شروط غير محدودة الصلاحية وقيود على الصواريخ الباليستية، بل وحتى قيود على التدخل الإيراني في المنطقة (بخاصة أن وكلاء إيران قد تعرضوا لانتكاسات كبيرة بالفعل). 

وقد يشمل الاتفاق الجديد أيضاً منع إيران من تخصيب اليورانيوم محلياً في مقابل السماح لها بالوصول إلى بنك وقود دولي، وهو حل يمكن أن يمنح طهران فرصة القول بإنها احتفظت بحقها في استخدام الطاقة النووية للأغراض المدنية، في حين يتيح لترمب والحكومة الإسرائيلية الزعم بأنهما منعا إيران من التحكم في عملية التخصيب.

وعلى رغم هذه الظروف الإستراتيجية الجديدة فستبقى هناك حدود للتنازلات التي قد تقدمها إيران، وقد يبالغ ترمب في مطالبه أو يسعى حتى إلى تغيير النظام في طهران، لكن ينبغي أن يكون من الواضح أن أي اتفاق يمنع إيران بصورة موثوقة من تطوير سلاح نووي ويحد من نفوذها الإقليمي سيكون جذاباً، والواقع أن الجمع بين ضعف إيران وتزايد صدقية التهديد الأميركي باستخدام القوة يجعل هذا الاتفاق أكثر واقعية من أي وقت مضى، وإذا تمكن ترمب من التفاوض على مثل هذا الاتفاق فسيكون قادراً على التفاخر بأنه حصل على “صفقة أفضل” من تلك التي توصل إليها أوباما، ثم سيقنع الكونغرس بها.

الحرب والسلم

إن الفرصة الثانية التي تلوح أمام ترمب في المنطقة هي إنهاء الحرب في غزة، التي تشكل أكبر انتكاسة للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط منذ حرب العراق، ثم الشروع في العملية الطويلة المتمثلة في تحقيق الاستقرار في “اليوم التالي”، فمنذ الهجوم المروع الذي شنته “حماس” على إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023 وما تبعه من رد إسرائيلي، كان الوضع في غزة مأساة لا تحتمل، لكن اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى الذي توصلت إليه “حماس” وإسرائيل في الـ 15 من يناير (كانون الثاني) الماضي، بعد أشهر عدة من الجهود الفاشلة وبمساعدة من فريق ترمب القادم، يوفر مساراً محتملاً لإنهاء الحرب أخيراً، فبعد 15 شهراً من الدمار والمعاناة غير المسبوقين أوقفت إسرائيل العمليات العسكرية الكبرى وبدأت “حماس” في إطلاق الرهائن، فيما شرع سكان غزة في العودة لأحيائهم.

لكن المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار محدودة في الوقت والنطاق ومن غير المضمون أن تستمر، وسيتطلب الانتقال إلى المرحلة الثانية اتخاذ قرارات أكثر صعوبة في شأن إطلاق سراح (بمن في ذلك الجنود الإسرائيليون)، وتحرير سجناء اعتقلتهم إسرائيل (بمن في ذلك مزيد من المسلحين)، وفي نهاية المطاف حسم مصير “حماس”، وفي الوقت نفسه كانت صور الرهائن الإسرائيليين الهزيلين الذين أُطلقوا في الثامن من فبراير (شباط) الجاري بمثابة تذكير صارخ لإسرائيل بضرورة التوصل إلى اتفاق في شأن المرحلة الثانية قبل أن يلقى مزيد من الرهائن حتفهم.

وعلى نحو مماثل يجب على “حماس” أن تدرك أيضاً أن إنهاء الاتفاق لن يكون لمصلحتها، فلقد توعد ترمب الحركة بـ “الجحيم” إذا رفضت الصفقة، وهي تعرف أن “الفرسان” الذين كانت تعتمد عليهم، ولا سيما “حزب الله” وإيران، لن يأتوا لإنقاذها، وهو أحد الأسباب الرئيسة وراء موافقتها على وقف إطلاق النار وتبادل الرهائن في المقام الأول.

إذا تمكن ترمب من المساعدة في تمديد الاتفاق بين “حماس” وإسرائيل، أو حتى منع تجدد القتال، فستكون لديه فرصة لبدء وضع اللبنات الأساس للاستقرار في غزة والضفة الغربية، وعلى المدى الطويل لاتفاق سلام لطالما سعى إلى إبرامه بين إسرائيل والسعودية، ليكون امتداداً لـ “اتفاقات أبراهام” التي تفاوض عليها خلال ولايته الأولى.

وهذه الرؤية التاريخية لا تتطلب إنهاء الحرب في غزة وحسب، بل أيضاً التزاماً إسرائيلياً بمسار يقود إلى إقامة دولة فلسطينية، ومن المؤكد أن تقديم مثل هذا الالتزام أمر يصعب تصوره في ظل الحكومة الإسرائيلية الحالية، لكنه لن يكون مستحيلاً ربما تحت ضغط ترمب الذي سيكون في موقع فريد للتأثير في إسرائيل، بخاصة إذا رأى في ذلك طريقاً لنيل “جائزة نوبل للسلام”.

وهناك أيضاً أهداف أكثر واقعية ومحدودية يمكن لترمب أن يعمل على تحقيقها إذا كان راغباً في ذلك، على غرار المطالبة بإصلاح حقيقي للسلطة الفلسطينية مع اقتراب خروج الرئيس محمود عباس البالغ من العمر 89 سنة من المشهد؛ وإقناع إسرائيل بقبول دور للسلطة الفلسطينية في إدارة غزة بعد الحرب، وهو ما قد تراه العناصر الباقية من “حماس” خياراً أقل ضرراً من استمرار التدمير، وإقناع دول الخليج العربي التي تحرص على الحفاظ على علاقات جيدة مع الإدارة الأميركية، بتقديم الدعم السياسي وأموال إعادة الإعمار، وربما قوات أمنية لدعم اتفاق السلام.

لكن المشكلات والتحديات ستظل هائلة حتى مع حدوث هذا التقدم، بيد أنها ستبدو ضئيلة وتافهة مقارنة بالدمار والانقسامات والمعاناة التي سبقت اتفاق وقف إطلاق النار، وسيحصل ترمب عن حق على الفضل في ذلك.

توجه الأنظار نحو لبنان

لقد ورث ترمب أيضاً فرصاً في لبنان الذي بدت آفاقه قاتمة حتى قبل الحرب بين إسرائيل و”حماس”، لكنها ساءت بصورة واضحة عندما وجهت إسرائيل قواتها نحو “حزب الله” مما أدى إلى سقوط آلاف الضحايا وتهجير عشرات آلاف المدنيين، فلقد عانى لبنان لعقود من الزمان هيمنة “حزب الله”، ومنذ عام 2011 استقبل أكثر من مليون لاجئ سوري بسبب الحرب في بلادهم، ولكن مع تراجع قوة الحزب أتيحت للبلاد أخيراً فرصة التحرر من قبضة إيران وإقامة دولة أكثر فاعلية وسيادة.

في الواقع تنبع هذه الفرصة من الخسائر الهائلة التي تكبدها “حزب الله” منذ أن ارتكب خطأ خوض الحرب مع إسرائيل في أعقاب هجمات السابع من أكتوبر 2023، وعلى رغم أن بعض الأصوات في إسرائيل دعت منذ البداية إلى إطلاق عملية عسكرية كبرى ضد “حزب الله” لكن نتنياهو امتنع في البداية، ويرجع ذلك جزئياً إلى الضغوط من إدارة بايدن لتجنب التصعيد الإقليمي، ولكن مع استمرار هجمات “حزب الله ” على شمال إسرائيل ومنعه عشرات آلاف النازحين الإسرائيليين من العودة لمنازلهم، نفد صبر إسرائيل.

في الأشهر الأخيرة من عام 2024 صعدت تل أبيب ضرباتها العسكرية ضد “حزب الله”، بما في ذلك هجمات أجهزة البيجر التي أسفرت عن تعرض آلاف المقاتلين لإصابات جسدية، واغتيال مسؤولي “حزب الله” بمن في ذلك أمينه العام حسن نصرالله، والغارات الجوية المتواصلة على بنيته التحتية العسكرية مما أدى إلى تدمير المنظمة سياسياً وعسكرياً بصورة تدرجية، وبحلول نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، خوفاً من تكبده مزيداً من الخسائر وبعد أن أدرك أن إيران ليست في وضع يسمح لها بالدفاع عنه، وافق “حزب الله” على اتفاق لوقف إطلاق النار مع إسرائيل، وهو اتفاق لم يشمل شرط الحزب المسبق بإنهاء الحرب في غزة، وفرضَ عليه سحب قواته إلى شمال نهر الليطاني، وسمح بانتشار آلاف من عناصر الجيش اللبناني في منطقة عازلة في الجنوب.

وإضافة إلى ذلك مهد هذا الاتفاق الطريق لتحقيق إنجاز في السياسة اللبنانية وهو اختيار رئيس جديد، قائد الجيش السابق جوزاف عون، ورئيس وزراء جديد القاضي المحترم نواف سلام، وكلاهما ملتزم بتحسين الحكم وضمان استقلال الدولة اللبنانية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لا شك في أن “حزب الله” سيظل يمارس تأثيراً كبيراً في السياسة اللبنانية، بيد أن نفوذه قد تراجع بصورة ملحوظة، فالشعب اللبناني سئم من نتائج قيادته، وبطريقة موازية تضررت قدرة إيران على إعادة إمداد الحزب بالسلاح بسبب خسارة نفوذها في سوريا، وفي المقابل من الممكن أن تفوز الحكومة اللبنانية الجديدة بالدعم السياسي والاقتصادي والعسكري الدولي الذي تحتاج إليه لتحقيق النجاح، بما في ذلك من الولايات المتحدة، وإذا تمكن ترمب من التغلب على نزعاته المعارضة للمساعدات الخارجية فستتاح له الفرصة لمساعدة الحكومة والجيش اللبنانيين على امتلاك الوسائل والثقة اللازمة لتهميش “حزب الله” أكثر والحد من نفوذ إيران.

سوريا جديدة

أخيراً، وبشكل مذهل، ظهرت فرصة في سوريا التي كانت ربما المنطقة الأكثر اضطراباً وزعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط على مدى الأعوام الـ 15 الماضية، فبحلول عام 2020 وبعد أعوام من محاولات عزل الدكتاتور السوري بشار الأسد، بل وحتى الإطاحة به، كانت الولايات المتحدة وعدد من حلفائها العرب والأوروبيين قد قبلوا في الغالب بالواقع المرير المتمثل في استمرار حكم الأسد، ولكن مع التركيز العالمي بشكل مبرر على الوضع في غزة وتدهور نفوذ إيران بسبب صراعها مع إسرائيل وتراجع قوة روسيا نتيجة حربها مع أوكرانيا، تمكنت المعارضة السورية بقيادة جماعة “هيئة تحرير الشام” من اغتنام الفرصة للتحرك، ولم يكن من قبيل المصادفة أن تشن “هيئة تحرير الشام” وحلفاؤها هجومهم العسكري مباشرة بعد اتفاق وقف إطلاق النار بين “حزب الله” وإسرائيل، مما ضمن عدم تدخل الحزب لإنقاذ الأسد مثلما فعل عام 2011 عندما كان على وشك السقوط.

وقد يكون من المفاجئ بالدرجة نفسها أيضاً أن “هيئة تحرير الشام” التي لا تزال الولايات المتحدة تصنفها كمنظمة إرهابية، أعلنت التزامها بضمان حقوق الإنسان واحترام الأقليات والنأي بنفسها عن ماضيها الإرهابي، لا بل بدأت حتى في اتخاذ خطوات نحو تنفيذ هذا الالتزام. وفجأة رحل النظام السوري الذي كان الحليف الرئيس لإيران في الشرق الأوسط وقناة لنقل الأسلحة إلى “حزب الله” ومضيفاً للقوات العسكرية والقواعد البحرية الروسية، ومصدراً رئيساً للمخدرات وداعماً للإرهاب، وحلت محله فرصة لتشكيل سوريا جديدة، ولا يزال يتعين على الرئيس الجديد أحمد الشرع أن يثبت التزامه ببناء سوريا أفضل، ولكن قبل ثلاثة أشهر وحسب، كانت فكرة أن يحظى ترمب بفرصة لدعم سوريا من هذا النوع مجرد حلم بعيد المنال.

لن تكون السياسة الأميركية هي العامل الحاسم والأهم الذي يحدد النجاح أو الفشل في سوريا، بيد أن واشنطن يمكن أن تُحدث فرقاً، فقد يلغي ترمب، على سبيل المثال، إدراج “هيئة تحرير الشام” على القائمة الأميركية للإرهاب في مقابل الحكم الرشيد والتعاون في تحقيق أهداف مكافحة الإرهاب، بما في ذلك التفاوض على وجود عسكري أميركي في الشمال الشرقي للمساعدة في منع عودة ظهور تنظيم الدولة الإسلامية، وقد يرفع ترمب أيضاً العقوبات الأوسع نطاقاً ويقدم معونات اقتصادية إذا وافقت سوريا على منع وصول روسيا إلى القواعد البحرية، وقد يساعد البلاد في إيجاد مصادر بديلة للحبوب والنفط تعوض فقدان المصادر الروسية والإيرانية، وإضافة إلى ذلك قد يستخدم ترمب نفوذ الولايات المتحدة لدى تركيا وشركاء واشنطن السوريين الأكراد للتوسط في نهاية المطاف في اتفاق سياسي بينهم وبين النظام الجديد في دمشق، وهذه فرص لم تتح للولايات المتحدة منذ عقود ويتعين على ترمب أن يغتنمها.

انتهاز الفرصة

ينبغي ألا يقلل أحد من شأن التحديات والأخطار التي لا تزال تلوح في الأفق في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، فالحكومات الضعيفة وغير الفعالة، والتنافسات الدينية والعرقية والدولية العميقة، وتعدد الجهات الفاعلة السيئة، إضافة إلى عواقب الحرب الرهيبة في غزة التي ربما لم تنته بعد، ستستمر في عرقلة التقدم نحو السلام والاستقرار، وفي الوقت نفسه سيكون من الخطأ الفادح تجاهل الفرص التاريخية التي يقدمها المشهد الإستراتيجي الجديد، وهي فرص كانت تبدو بعيدة المنال قبل عام أو حتى قبل بضعة أشهر فقط.

لا شك في أن أكبر طموح لترمب هو تحقيق ما عجز عنه كثيرون من أسلافه، وعلى كل شخص يهتم لأمر المنطقة أن يأمل في أن ينجح الرئيس الأميركي في ذلك.
 

 مترجم عن “فورين أفيرز” 19 فبراير (شباط) 2025

فيليب غوردون كان مستشار الأمن القومي لنائبة الرئيس كامالا هاريس بين عامي 2022 و 2025، ومنسق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط خلال إدارة أوباما، وهو مؤلف كتاب “خسارة اللعبة الطويلة: الوعد الكاذب بتغيير الأنظمة في الشرق الأوسط”.

subtitle: 
ترمب يتمتع بنفوذ كبير ولكن عليه أن يستخدمه بحكمة
publication date: 
الأحد, فبراير 23, 2025 – 22:30