إسرائيل وترمب واتفاق غزة

This post was originally published on الإندبندنت عربية

<p>رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الأميركي دونالد ترمب في واشنطن العاصمة، سبتمبر 2020 (رويترز)</p>

في الأيام التي أعقبت اتفاق وقف إطلاق النار في غزة في 19 من يناير (كانون الثاني) الجاري غرق عديد من الإسرائيليين في موجة من المشاعر تكاد تضاهي في شدتها وقع الصدمة التي نجمت عن مجزرة “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. والفرق هذه المرة بالطبع هو أن هذه الموجة ليست وليدة الحزن والرعب الشديد، بل إنها تنبع من الفرح وإمكانية بزوغ الأمل للمرة الأولى منذ أكثر من 15 شهراً. وقد بدأ الاتفاق الهش يتعرض لضغوط كبيرة، وقد ينهار في الأسابيع المقبلة. ومع ذلك توقف القتال في الوقت الحالي في كل من غزة ولبنان، وبدأ الرهائن في العودة إلى منازلهم. ومثلما يتضح من موجات التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الصحافة الإسرائيلية، فإن الغالبية العظمى من الإسرائيليين رحبت بالاتفاق باعتباره سبباً للاحتفال، حتى أولئك الذين عارضوه لأسباب استراتيجية أو أيديولوجية.

لكن رد الفعل الساحق لا يتعلق أساساً بالسلام، بل يدور بصورة أكبر حول ما يعنيه هذا الاتفاق بالنسبة إلى الهوية الإسرائيلية التي تعاني أزمة شديدة. والقضية الأساسية للإسرائيليين، التي قد لا يدركها المراقبون الخارجيون تماماً، هي أن إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948، بعد ثلاث سنوات من نهاية الهولوكوست، عرفت عن نفسها على أنها ملاذ آمن لليهود. وعلى مدى أكثر من 70 عاماً، وعلى رغم الحروب الكبرى والتحديات المتكررة، كانت قادرة على الحفاظ على هذه الفكرة الأساسية. إلا أن هجمات السابع من أكتوبر كسرت هذه الصورة. فقد تلاشى الاعتقاد أن الجيش والجهات الأمنية ستصل دائماً في الوقت المناسب لإنقاذ اليهود من الخطر. وبالنسبة إلى عديد من الإسرائيليين، استمر هذا الفشل طوال مدة الحرب التي دامت لفترة تزيد على 15 شهراً، أثبتت خلالها الحكومة عجزها عن إنقاذ أو إعادة عدد كبير من الرهائن الـ251، الإسرائيليين والأجانب، الذين اقتيدوا إلى غزة.

والآن بدأت إسرائيل أخيراً في ترميم هذه الصورة [الأركان المحطمة]. وحين وقف إطلاق النار كان هناك 97 رهينة إسرائيلية بين مدنيين وجنود، يعتقد أن قرابة نصفهم ما زالوا على قيد الحياة. وقد أطلق سراح سبعة منهم حتى الآن، جميعهم نساء، ومن المتوقع تحرير 26 رهينة أخرى في مجموعات صغيرة خلال الأسابيع الأربعة والنصف المقبلة. بالنسبة إلى كثير من الإسرائيليين، لن تتمكن الحكومة والأجهزة الأمنية من التكفير عن الأخطاء التي سمحت بحدوث هجمات السابع من أكتوبر، لكن اتفاق الرهائن أعاد الأمل للمرة الأولى منذ بدء الحرب في استعادة الملاذ الآمن ولو جزئياً.

ومع ذلك يأتي الاتفاق بكلفة باهظة ومن غير الواضح إلى متى قد يصمد. ففي مقابل أول 33 رهينة، وافقت إسرائيل على الإفراج عن نحو 1700 أسير فلسطيني، بينهم أكثر من 200 يقضون أحكاماً بالسجن المؤبد بتهمة قتل إسرائيليين. وهذه ليست سوى الجولة الأولى من التنازلات. بمجرد الانتهاء من “المرحلة الأولى”، سيظل هناك 64 رهينة في غزة، يعتقد أن أقل من 30 منهم على قيد الحياة. وسيتطلب الإفراج عنهم تحرير آلاف الأسرى الفلسطينيين الإضافيين، بمن في ذلك كثر من الذين صدرت بحقهم عدة أحكام بالسجن المؤبد. وسوف يشمل المفرج عنهم أيضاً سجناء ينظر إليهم الإسرائيليون باعتبارهم “نجوم الإرهاب”، وهم شخصيات بارزة في الجماعات الفلسطينية المسلحة مسؤولون عن تدبير التفجيرات الانتحارية التي أوقعت أعداداً كبيرة من الضحايا في التسعينيات والعقد الأول من هذا القرن، علماً أن هؤلاء السجناء لم توافق أي حكومة إسرائيلية سابقة على إطلاق سراحهم.

بالنسبة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يمثل كل ذلك معضلة كبيرة. فهو يحتاج إلى شركائه في الائتلاف اليميني المتطرف للبقاء في السلطة. لكنهم يعارضون وقف إطلاق النار بشدة، وعلى النقيض من غالبية كبيرة من الشعب الإسرائيلي، يطالبون باستئناف الحرب فوراً وإلا فسيستقيلون. وإذا أجريت انتخابات جديدة اليوم، فمن المرجح أن يخسر نتنياهو. وفي الوقت نفسه على رئيس الوزراء الآن أن يتعامل أيضاً مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي يمارس ضغوطاً هائلة لإنجاز الأمور على طريقته ويقول إنه لن يتسامح مع استمرار الحرب في عهده. 

وما سيحدث بعد ذلك هو رهن في المقام الأول على الرئيس الأميركي. فالإدارة القادمة لديها خطط كبيرة. وعلى مدى أشهر، تحدث مساعدو ترمب ومستشاروه عن الترتيبات الإقليمية التي يريد تنفيذها. يبدو أن هدفه الرئيس هو إبرام صفقات بمليارات الدولارات في مجال التكنولوجيا والدفاع بين الولايات المتحدة والسعودية. ستكون الخطوة المصاحبة لذلك هي صفقة تطبيع إسرائيلية – سعودية كبرى، مشابهة لتلك التي حاولت إدارة بايدن تمريرها في خريف 2023 (ذهب قادة “حماس” في وقت لاحق إلى أن إحباط هذا الاتفاق كان أحد دوافعهم لشن هجمات السابع من أكتوبر). وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف، سيحتاج ترمب إلى استمرار وقف إطلاق النار في كل من غزة ولبنان لأطول فترة ممكنة، بغض النظر عما إذا كان الطرفان مهتمين حقاً بالسلام أم لا.

حرب سارت على نحو خاطئ

كان المسار الذي أدى إلى وقف إطلاق النار في غزة طويلاً جداً حتى كاد يضاهي مدة الحرب نفسها. ففي نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، وبعدما خلص قادة “حماس” إلى أن العدد الكبير من النساء والأطفال الذين اختطفوهم يشكلون عبئاً يثقل كاهلهم أكثر من كونهم مكسباً استراتيجياً، تفاوضوا على أول اتفاق لوقف إطلاق النار مقابل صفقة لتبادل الرهائن مع إسرائيل، بوساطة مصر وقطر والولايات المتحدة. وفي ذلك الوقت، سارعت “حماس” إلى تسليم هؤلاء الرهائن مقابل مكسب ضئيل مقارنة بصفقات سابقة مماثلة، فقد أفرج عن ثلاثة أسرى فلسطينيين، معظمهم من النساء والقصر، مقابل كل رهينة إسرائيلية.

من الناحية النظرية، كان من المفترض أن تؤدي المرحلة الأولى من تبادل الأسرى بعد سبعة أيام إلى مرحلة ثانية، يجري خلالها تمديد وقف إطلاق النار والإفراج عن الرهائن المتبقين تدريجاً مقابل الحصول على مكاسب أكبر من إسرائيل، لكن المفاوضات تعثرت في اليوم السابع، وخلافاً لتوقعات الوسطاء، استؤنف القتال، وأعاد جيش الدفاع الإسرائيلي إطلاق غزوه البري الواسع في وسط غزة. وسرعان ما توسعت هذه الحملة لتشمل المناطق الجنوبية من القطاع.

 

 

في الأشهر التالية، وعلى رغم الجهود المتكررة، انهارت المفاوضات الرامية إلى التوصل إلى اتفاق جديد. وبحلول مايو (أيار) 2024، كانت إدارة بايدن محبطة للغاية من عدم إحراز الحكومة الإسرائيلية أي تقدم كان ما حمل الرئيس الأميركي جو بايدن على خطوة غير مسبوقة بالإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار مقابل صفقة الرهائن، وقال إن إسرائيل وافقت عليه سراً، لكن نتنياهو رفضه (في الواقع، كان هذا الاتفاق بصورة أساس هو نفسه الذي وافقت عليه إسرائيل الآن). ومع ذلك طوال عامه الأخير في منصبه، وفر بايدن عموماً غطاء لنتنياهو، ملقياً باللوم في الغالب على “حماس” لتعثر المحادثات.

لكن عديداً من أعضاء فريق التفاوض الإسرائيلي كانوا يدركون الحقيقة. فقد لاحظوا أن نتنياهو كان يفشل المحادثات عمداً كلما اقتربت من النجاح، لأنه كان يخشى أن يستقيل شركاؤه في الائتلاف اليميني المتطرف، الوزيران بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، إذا نفذ الاتفاق. وفي حال انهارت الحكومة، كان نتنياهو نفسه سيواجه خطراً قانونياً متعاظماً في قضايا الفساد الثلاث المرفوعة ضده. وهكذا، من خلال المماطلة المستمرة في التوصل إلى اتفاق، بدا أن رئيس الوزراء يولي الأولوية لبقائه السياسي والشخصي على حساب إعادة الرهائن إلى ديارهم.

“اللامبالاة الواضحة الحكومية في ملف الرهائن عمقت إحباط الإسرائيليين”.

وفي الوقت نفسه أدى فشل الحكومة المستمر في التوصل إلى اتفاق لتصاعد الغضب والاستنكار بين فئات واسعة من الجمهور الإسرائيلي، بقيادة عائلات الرهائن. في تل أبيب، تجمع عشرات الآلاف من الأشخاص في احتجاجات أسبوعية، وجرى تغيير اسم ساحة رئيسة قرب مقر جيش الدفاع الإسرائيلي إلى “ساحة الرهائن”. وأغلقت عائلات الرهائن والنشطاء في الاحتجاجات الطرق الرئيسة بصورة متكررة. وفي كل دائرة من دوائر المجتمع الإسرائيلي تقريباً، ظهرت مبادرات احتجاج رمزية وأقل تصادمية، مثل عرض كراسي بلاستيكية فارغة، وأشرطة صفراء، وملصقات تحمل صوراً ضخمة للرهائن مع عبارة: “ماذا لو كانت ابنتك؟”. وأصبحت وجوه الرهائن وقصصهم الشخصية مألوفة في كل بيت إسرائيلي تقريباً، إذ تبنى كثر قضية رهينة معينة للدفاع عنها. وما أسهم في زيادة إحباط الشعب كان اللامبالاة الواضحة من الحكومة تجاه الرهائن، على رغم السيطرة العسكرية شبه الكاملة لجيش الدفاع الإسرائيلي على غزة، وحقيقة أن عديداً من الرهائن كانوا محتجزين على بعد بضعة كيلومترات من مواقع الجيش الإسرائيلي.

وعلى مدار فترة الحرب بأكملها، لم ينجح الجيش سوى في إنقاذ ثمانية رهائن من غزة، أي ما يعادل تقريباً ثلاثة في المئة فحسب من العدد الإجمالي. وفي الوقت نفسه عثر على عشرات الرهائن الآخرين مقتولين، كان الفلسطينيون قد خبأوهم في مواقع مختلفة داخل القطاع. هذه النتائج تعتبر ضعيفة وصادمة للغاية بالنسبة إلى دولة كثيراً ما افتخرت بعمليات الإنقاذ الجريئة التي نفذتها. لنأخذ على سبيل المثال عملية عنتيبي عام 1976، الغارة التي نفذتها قوات الكوماندوز الإسرائيلية في أوغندا وأنقذت 102 من أصل 106 رهائن احتجزهم مسلحون فلسطينيون، وهي العملية التي قتل فيها شقيق رئيس الوزراء، المقدم يوناتان نتنياهو. ومنذ ذلك الحين، تفاقمت الأخطار المرتبطة بمثل هذه العمليات، سواء على نخبة قوات الإنقاذ الإسرائيلية أو على الرهائن أنفسهم.

ومع استمرار الحرب في غزة من دون التوصل إلى اتفاق، تضاءل الأمل في إنقاذ الرهائن أكثر. ففي يونيو (حزيران) 2024، وبعدما أنقذت القوات الإسرائيلية أربع رهائن من مخيم النصيرات للاجئين في وسط غزة، غيرت “حماس” تعليماتها لحراس الرهائن: فإذا رصدوا أي نشاط عسكري إسرائيلي في جوارهم، طلب منهم إعدام الرهائن للحيلولة دون تحريرهم. وبعد شهرين، حدثت هذه المأساة بالفعل، عندما أقدم خاطفو ستة مدنيين إسرائيليين على قتل الرهائن بعد سماع حركة مركبات مدرعة إسرائيلية فوقهم. وكان من بين الضحايا هيرش غولدبرغ بولين، الشاب الإسرائيلي الأميركي الذي أثارت جهود عائلته الحثيثة من أجل إطلاق سراحه ردود فعل واسعة في إسرائيل والعالم الغربي. وكان من الصعب على كثير من الإسرائيليين ألا يعتبروا ذلك نتيجة حرب فاشلة.

بين ترمب والمأزق الصعب

إذا كان وقف إطلاق في الـ19 من يناير يشي بمنعطف محتمل، فإن أزمة الثقة التي تعيشها إسرائيل ما زالت بعيدة كل البعد من الإصلاح. فالمجتمع الإسرائيلي يشوبه انقسام حاد، وشخصية نتنياهو المثيرة للجدل ستعقد عملية إعادة بناء هذه الثقة. إضافة إلى ذلك فإن عدم قدرة الحكومة على الوفاء بوعدها بتحقيق “نصر كامل” على “حماس”، على رغم التفوق العسكري الساحق للجيش الإسرائيلي في الميدان، ورفض نتنياهو السماح بإجراء تحقيق مستقل في الإخفاقات التي أدت إلى أحداث السابع من أكتوبر، يشكلان عقبة كبيرة أمام أي مصالحة وطنية.

وفي سبيل اتفاق وقف إطلاق النار، قدمت الحكومة تنازلات كبيرة أخرى. فقد انسحب جيش الدفاع الإسرائيلي من الممر الأمني الذي أنشأه في وسط غزة لفصل الشمال عن الجنوب، كما التزم بالانسحاب من الممر الذي يعرف بمحور فيلادلفي على طول الحدود الجنوبية لقطاع غزة مع مصر، قرب رفح، في الأسبوع السابع من وقف إطلاق النار. من شبه المؤكد أن إسرائيل ستصر على الاحتفاظ بصورة من صور الوجود العسكري في ما تسميه الحيز الأمني، وهو منطقة عازلة تمتد نحو كيلومتر واحد وراء السياج الحدودي داخل الأراضي الفلسطينية على طول الحدود كلها.

هذه التنازلات، إلى جانب الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، أثارت انتقادات حادة ليس من الأحزاب اليمينية المتطرفة فحسب، بل أيضاً من أنصار نتنياهو الأساسيين. فلنأخذ على سبيل المثال القناة 14، الشبكة التلفزيونية المؤيدة لنتنياهو التي تجمع بين أسلوب “فوكس نيوز” [تغطية إعلامية يمينية تقليدية] وأسلوب “نيوز ماكس” [محتوى يميل إلى التطرف]. طوال الحرب، تحاشت القناة كل ما من شأنه توجيه الأسئلة حول مسؤولية رئيس الوزراء عن الإخفاقات الأمنية الكارثية في السابع من أكتوبر، وبررت كل قرار اتخذه منذ ذلك الحين. لكن واقع وقف إطلاق النار والتنازلات غير المسبوقة التي تضمنها قلبت سردية القناة 14 رأساً على عقب. واستبدل الترويج المعتاد للدعاية الداعمة للحكومة، بسجال لاهوتي [دينية] بين الموالين لنتنياهو وأولئك الذين أصبحوا فجأة من المنتقدين له. واعترف أحد الصحافيين: “لو كان هذا اتفاقاً أبرمه يائير لبيد [رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق وزعيم المعارضة الحالي]، لكنت عارضته. ولكن بما أن نتنياهو هو من أبرمه، فأنا أؤيده”. بينما كان آخرون من اليمين أكثر صراحة، واصفين الاتفاق بأنه “استسلام مُخزٍ”.

 

لا شك في أن العامل الرئيس في هذا الواقع الجديد هو ترمب. وما تغير بين يوليو (تموز) 2024، عندما رفضت إسرائيل اتفاق وقف إطلاق النار، ويناير، عندما قبلت بالاتفاق نفسه تقريباً، هو ببساطة فوز ترمب في الانتخابات واستعداده لتولي منصبه. خلافاً لأنصاره المتشددين، فهم نتنياهو تداعيات هذا التحول بالنسبة إلى إسرائيل على الفور. فمنذ الانتخابات الأميركية، جرت مناقشات محمومة بين مساعدي ترمب ونتنياهو. وأرسل رون ديرمر، الوزير الإسرائيلي، وهو أقرب المقربين إلى نتنياهو، وصلة الوصل الرئيسة بينه وبين الإدارات الجمهورية، مرات عدة إلى واشنطن وإلى منتجع ترمب في مارالاغو.

في حين احتفل أنصار نتنياهو بتعيين حلفاء إسرائيليين يمينيين أقوياء في مناصب أميركية رفيعة، لاحظ نتنياهو وديرمر أن لترمب أولويات مختلفة. فقد أدركا أن عديداً من مستشاري ترمب يتبنون أيضاً توجهات انعزالية وينظرون بعين الشك إلى التدخلات العسكرية. وقد صرح الرئيس نفسه مراراً وتكراراً، قبل وبعد انتخابه، أنه خلافاً للادعاءات، يعتزم إنهاء الحروب وليس إشعال حروب جديدة.

في حال إسرائيل، كان الهدف الفوري لترمب هو وقف الحرب في غزة كجزء من صفقة تبادل الرهائن. ومع اقتراب يوم التنصيب، أكد ترمب مراراً على أهمية هذه المسألة، بل وهدد “بفتح أبواب الجحيم” إذا لم ينفذ طلبه. في إسرائيل، فسر كثر هذا التهديد على أنه موجه إلى “حماس”، أو ربما بدرجة أكبر إلى مصر وقطر، الوسيطتين في المفاوضات. لكن نتنياهو ربما فهم الأمر أيضاً على أنه رسالة موجهة إليه.

في أواخر ديسمبر (كانون الأول)، توصل ترمب وبايدن إلى تفاهم غير معتاد في شأن غزة: ستعمل كلتا الإدارتين معاً لتحقيق وقف إطلاق النار بحلول الـ20 من يناير. في تلك المرحلة، استؤنفت المفاوضات المكثفة في الدوحة، قطر، بين وفد إسرائيلي وممثلي الوسطاء، وبصورة منفصلة مع قيادة “حماس” في الخارج. وفي خطوة استثنائية تختلف عن البروتوكول المعتاد لإدارة لم تتولَّ السلطة بعد، انضم إلى المحادثات ستيف ويتكوف، وهو مبعوث ترمب المعين إلى الشرق الأوسط وزميله العملاق في مجال العقارات في نيويورك. على رغم عدم امتلاكه أي خلفية مهنية في شؤون الشرق الأوسط، فإن ويتكوف أظهر مهارة في إبرام الصفقات، وأفاد مشاركون إسرائيليون أنه بمجرد دخوله إلى الغرفة، اكتسبت المفاوضات زخماً.

“كان نتنياهو متنازعاً بين ضغوط ترمب وتهديدات اليمين المتطرف”.

 

ثم، الجمعة الـ10 من يناير، حدث أمر استثنائي. اتصل ويتكوف من الدوحة وطلب اجتماعاً عاجلاً صباح السبت مع نتنياهو في القدس. نتنياهو، الذي كان يتعافى من جراحة البروستات، نادراً ما يعقد اجتماعات السبت وحاول تأجيل اللقاء إلى مساء ذلك اليوم. لكن ويتكوف أصر، ولم يتمكن نتنياهو من التملص منه. ووصفت المصادر الإسرائيلية اجتماعهما بعبارات مبالغ فيها، وشبهته بمشاهد من فيلم “العراب”. في تلك الليلة، أعطى نتنياهو الإذن لكبار المسؤولين، رئيس الموساد ديفيد برنياع ومدير الشاباك رونين بار ومسؤول ملف الأسرى والمفقودين في الجيش الإسرائيلي اللواء نيتسان ألون، للسفر إلى قطر للمرة الأولى منذ أشهر. وهذه المرة، منحهم تفويضاً أوسع للمفاوضات. وبعد ثمانية أيام، جرى توقيع الاتفاق، ودخل حيز التنفيذ قبل يوم واحد من تنصيب ترمب.

على رغم التنازلات الكبيرة التي انطوى عليها الاتفاق، لم يناقشه نتنياهو بصورة علنية مع الشعب الإسرائيلي حتى الآن. بدلاً من ذلك، استمر في إرسال رسائل متضاربة إلى جماهير مختلفة. كثيراً ما كنت سياسة نتنياهو الطويلة الأمد حصيلة جميع مخاوفه، وهذه المرة، كان ممزقاً بين ضغوط ترمب وتهديدات اليمين المتطرف بتفكيك حكومته. وبحلول أواخر يناير، بدا أن خوفه من ترمب هو الذي غلب، لكن الأمر لم ينتهِ بعد. فعلى رغم استقالة بن غفير من الحكومة احتجاجاً على الاتفاق، وإعلان سموتريتش أنه سينتظر حتى اكتمال المرحلة الأولى منه، إلا أن كليهما أشار إلى أنهما قد يعودان إلى الائتلاف إذا أوقف نتنياهو تنفيذ الاتفاق واستأنف الحرب.

في اليوم التالي لدخول الاتفاق حيز التنفيذ، قال سموتريتش في مقابلة إذاعية إن بايدن سلم نتنياهو رسالة تسمح لإسرائيل باستئناف الأعمال العدائية في اليوم الـ43 من الاتفاق [أي بعد انتهاء مدة الستة أسابيع أو المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار] إذا فشلت مفاوضات المرحلة الثانية. ووصف الصحافي الإسرائيلي أمير تيبون الموقف بصراحة، فقال إن “نتنياهو يخدع ترمب ويستعد لتخريب اتفاق وقف إطلاق النار”. وتوقع تيبون طريقتين يمكن لنتنياهو اتباعهما لتحقيق ذلك: إما ببساطة من طريق تأخير مفاوضات المرحلة الثانية حتى ينفد الوقت، أو من خلال إشعال تصعيد عنيف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية. وبالفعل، بدأ الناشطون الإسرائيليون من اليمين المتطرف يخربون قرى الضفة الغربية، ويحرقون الممتلكات احتجاجاً على إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، بينما يستعد جهاز الشاباك لاحتمال وقوع هجمات إرهابية ينفذها ناشطون من اليمين المتطرف يسعون إلى إفشال الاتفاق. وزاد وزير الدفاع يسرائيل كاتس، الذي ينظر إليه على أنه دمية في يد نتنياهو ويأتمر بأمره، من تأجيج التوترات بإعلانه إطلاق سراح عديد من المستوطنين اليمينيين المتطرفين من الاعتقال الإداري.

ويرى ديفيد ماكوفسكي المحلل في معهد “واشنطن” لسياسة الشرق الأدنى والمراقب المخضرم لشؤون نتنياهو أن رئيس الوزراء سيحاول إيجاد حل وسط. يقول ماكوفسكي “سيحاول نتنياهو إقناع ترمب بمنحه بضعة أسابيع أو أشهر إضافية لاستكمال العملية العسكرية ضد (حماس)، ثم سيعول على انشغال الرئيس المنتخب بمسائل أخرى”.

جمر تحت الرماد

في الـ19 من يناير حاولت “حماس” استغلال إطلاق سراح أول ثلاث رهائن، رومي جونين، وإميلي دماري، ودورون شتاينبريشر، لإظهار قوتها مرة أخرى. ظهر العشرات من عناصر جناحها العسكري، مسلحين ومقنعين، أمام الكاميرات في وسط مدينة غزة، وهي منطقة نادراً ما شوهدوا فيها منذ وقف إطلاق النار السابق بسبب ضربات الجيش الإسرائيلي. وتجمع حولهم حشد مضطرب ومتململ. واندفع السكان الفلسطينيون نحو المركبة التي كانت تنقل الرهائن إلى موظفي الصليب الأحمر، بل وحاول بعضهم الوصول إلى السيارة بالقوة. فلوح مسلحو “حماس” بأسلحتهم لإبعادهم، مما خلق حالاً من الفوضى في المكان. ومع تحرك الكاميرات قليلاً إلى الخلف، اتضحت حدود قدرات “حماس”، إذ لم يتجمع سوى بضع مئات من المواطنين في المنطقة، بينما بدا عديد من المباني المحيطة مدمراً. على خلاف ولوعود نتنياهو، لم ينجح الجيش الإسرائيلي في القضاء على “حماس” في غزة، ولا تزال الحركة تحتفظ ببعض مهامها المدنية وقدراتها العسكرية، على رغم الضربات الشديدة التي تلقتها خلال الحرب. ويرتبط ذلك على الأرجح برفض رئيس الوزراء المطلق لمناقشة أي خطط متعلقة بمرحلة “اليوم التالي” في غزة، وحظره التام لصياغة أي حلول من شأنها أن تشمل السلطة الفلسطينية، التي تحكم المدن في الضفة الغربية.

 

 

في الوقت نفسه فإن غزة في حال خراب، إذ أصبح ما لا يقل عن 70 في المئة من المنازل غير صالح للسكن، والثمن الذي دفعه الفلسطينيون كان باهظاً. وفقاً لوزارة الصحة الفلسطينية التي تسيطر عليها “حماس”، لقي أكثر من 47 ألفاً من سكان غزة مصرعهم في الحرب، ومن المرجح أن يكون الرقم النهائي الفعلي أعلى بكثير، إذ لا يزال عدد من الجثث مدفوناً تحت الأنقاض (وزارة الصحة الفلسطينية لا تميز بين المدنيين والمقاتلين. وتشير التقديرات الإسرائيلية إلى أن ما يصل إلى 20 ألف مقاتل من “حماس” قد قتلوا).

إذا لم ينهر الاتفاق الحالي، فهو قد يعبد الطريق أمام بقاء حركة “حماس” على رغم ضعف ألم بها واستعادة السيطرة بسرعة على غزة، لكن نتنياهو، تحت تهديدات ترمب، ليس الوحيد الذي خفف من حدة موقفه أخيراً. لقد أرهقت الحرب الطويلة سكان غزة بالكامل، إذ نزح ما يقارب 90 في المئة منهم من منازلهم واضطروا إلى العيش في مخيمات موقتة في الجزء الجنوبي من القطاع، وقد انقطعت المساعدات الإنسانية والطبية عن بعض السكان بصورة شبه كاملة لعدة أشهر.

وتواجه “حماس” أيضاً تراجعاً كبيراً في الدعم الخارجي. فقد تعرض حليفها الإقليمي، “حزب الله”، لهزيمة ساحقة في حربه مع الجيش الإسرائيلي في الخريف الماضي. وواجهت إيران، الراعي الرئيس لـ”حماس”، انتكاسات كبيرة، بما في ذلك غارة جوية إسرائيلية عنيفة في نهاية أكتوبر 2024. وجاءت ضربة أخرى لـ”محور المقاومة” الإيراني مع انهيار نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا في ديسمبر (كانون الأول). ونتيجة لذلك، وجدت “حماس” نفسها بحلول يناير معزولة تقريباً ولم يكن أمامها خيار سوى تقديم التنازلات، لكن ما يبقى غير واضح هو إلى متى سيستمر هذا التوازن النادر بين الأولويات والضغوط.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

محاسبة اليمين

نظراً إلى أن الخطط التي أعدها البيت الأبيض للمنطقة على المحك، فمن غير المرجح أن تقف إدارة ترمب مكتوفة الأيدي، بينما يحاول اليمين المتطرف في حكومة نتنياهو إفشال اتفاق وقف إطلاق النار. وبالفعل، بدأت قائمة رغبات ترمب تتضح: هدوء طويل الأمد في غزة، واتفاق مع السعودية، وتطبيع، وإذا أمكن، صفقة لإزالة التهديد النووي الإيراني. وسوف يجدد ترمب سياسة “الضغط الأقصى” على طهران، التي تواصل التقدم في برنامجها النووي على رغم الضربات التي تعرضت لها. ولكن في الوقت الحالي يبدو من غير المرجح أن يدعم ترمب ضربة استباقية على المنشآت النووية الإيرانية، مثلما كان يأمل البعض في حكومة نتنياهو بشدة.

بدلاً من ذلك، من المرجح أن يسعى ترمب إلى الاستفادة من تنسيقه الوثيق مع نتنياهو، وربما تزويد سلاح الجو الإسرائيلي بالذخائر الدقيقة، من أجل تحذير الإيرانيين وإبلاغهم أنه من الأفضل لهم تقديم التنازلات والتوقيع على اتفاق نووي جديد، حتى لو كان أكثر قسوة بكثير من الاتفاق الذي توصلوا إليه مع الرئيس باراك أوباما عام 2015. ومن المرجح أن يكون وراء تحرك ترمب دافع آخر يرتبط بطبيعته التنافسية وازدرائه لأسطورة أوباما. وتزعم مصادر في واشنطن أن ترمب يسعى إلى الفوز بجائزة نوبل للسلام في عامه الأول من ولايته الثانية كرئيس. ويبدو أن الطريق إلى هذه الجائزة يمر عبر القدس والرياض وطهران وليس عبر اتفاق سلام بين روسيا وأوكرانيا.

 

“إذا مضى نتنياهو قدماً في الاتفاق فقد تسقط الحكومة”.

الحق أن إحدى ركائز الإطار الناشئ الذي يسعى ترمب إلى إرسائه، وهي إنهاء الحرب في غزة، سيتعثر اليمين المتطرف في قبولها. وإذا مضى نتنياهو قدماً في تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق، بما في ذلك الانسحاب الكامل من القطاع، فمن المرجح أن تسقط حكومته. وحتى إذا نجت بطريقة أو بأخرى، بأعجوبة، لبضعة أسابيع إضافية حتى نهاية مارس (آذار)، فمن المحتمل أن تنهار عند هذه النقطة، بسبب أزمة سياسية متفاقمة في شأن الجهود الرامية إلى إعفاء جميع الرجال اليهود الأرثوذكس المتزمتين دينياً (الحريديم) من الخدمة العسكرية الإلزامية. ومن الناحية النظرية، قد يقرر نتنياهو التحول سياسياً نحو التيار الوسطي المعتدل في إسرائيل، والاستفادة من نجاح ترمب، والإعلان عن أنه وحده القادر على تحقيق اتفاقات تاريخية، فيما يحافظ في الوقت نفسه على أمن إسرائيل. وسيضطر نتنياهو إلى كل هذا في حين تستمر محاكمته بتهمة الفساد إلى جانب تهديد آخر يلوح في الأفق، وهو حملة من عائلات الجنود الذين قتلوا في السابع من أكتوبر للمطالبة بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة للتدقيق في أسباب فشل الحكومة في منع المجزرة.

لقد زعم عيران هالبرين، المتخصص في علم النفس السياسي في الجامعة العبرية في القدس، على نحو مقنع أن السبب الحقيقي وراء معارضة اليمين المتطرف الإسرائيلي إنهاء الحرب في غزة ليس سياسياً أو أيديولوجياً. وكتب “أن الدافع الحقيقي وراء محاولة إفشال الاتفاق هو القلق من أنه قد يحطم الرابط الأساس بين استخدام القوة العسكرية غير المحدودة المنفلتة من كل عقال والقدرة على توفير الأمن لمواطني إسرائيل”. بعبارة أخرى، فإن إنهاء الحرب سيجبر الإسرائيليين في نهاية المطاف على الاعتراف بأن حكومة نتنياهو اليمينية فشلت فشلاً ذريعاً في الحيلولة دون هجوم السابع من أكتوبر أو هزيمة المجموعة التي ارتكبته، على رغم الحرب الدموية التي استمرت 15 شهراً.

على مدى السنوات الخمس الماضية، تحمل الإسرائيليون جائحة كورونا، وخمس دورات انتخابية، ومحاولة تمرير إصلاحات قضائية شديدة التطرف، وحرباً بدأت بمجزرة مروعة وتمددت إلى عدة ساحات في وقت واحد. وتشير كل المؤشرات إلى أن العام المقبل لن يكون أكثر هدوءاً، ولكن خلال هذه الفترة، قد يتكشف مصير غزة، لا بل أيضاً الدور الذي ستلعبه إسرائيل في الشرق الأوسط الجديد الذي يتصوره الرئيس الأميركي القادم، حتى وإن كان هذا التصور غير محدد المعالم، شأنه شأن شطر راجح من أفكار ترمب.

*عاموس هرئيل المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس”

مترجم من فورين أفيرز، يناير (كانون الثاني) 2025

subtitle: 
هل بقاء نتنياهو ممكن في غياب الحرب؟
publication date: 
الثلاثاء, فبراير 4, 2025 – 11:30