This post was originally published on الإندبندنت عربية
![](https://www.independentarabia.com/sites/default/files/styles/thumbnail/public/article/mainimage/2025/02/05/1089335-920722644.jpg)
<p>الكاتب البرازيلي باولو كويلو (أ ف ب)</p>
يحكي الكاتب البرازيلي باولو كويلو أنه أثناء كتابته لروايته “إحدى عشرة دقيقة” قابل رجلاً في فرنسا وكان بصحبة زوجته وحفيدته. تعرف إليه الرجل وأخبره بأن كتبه تجعله يحلم، فاستأذنه كويلو في معرفة اسمه وسجله على ورقة بيضاء واحتفظ به ليجيء إهداء روايته التالية إلى هذا الرجل الذي قابله مصادفة “موريس غرافلين هذا الكتاب مهدى إليك، لدي واجب تجاهك وتجاه زوجتك وحفيدتك وتجاه نفسي، التحدث عما يشغلني وليس عما يود الناس سماعه، إن بعض الكتب تجعلنا نحلم وبعضها الآخر يذكرنا بالواقع، لكن لا يمكن لأي كاتب أن يتنصل مما هو جوهري لكتابته، ألا وهو النزاهة التي يكتب بها”.
مع مطالعة كل كتاب جديد سواء كان لواحد من الكتاب القدامى أو المعاصرين، يجد القارئ في غالبيتها إهداء يفتتح به المؤلف الكتاب، قد يكون تقليدياً موجهاً إلى أحد أفراد أسرته، أو مرتبطاً بمضمون محتوى الكتاب، وربما يكون موجهاً لفئة أو شخص أو جماعة مرتبطة به، وفي أحيان أخرى قد يكون طريفاً أو غير مألوف.
إهداءات الكتب تعكس جانباً رئيساً من شخصية الكاتب وفي بعض الأحيان تدفع القارئ إلى التأمل والتفكر في مغزاها أو في الهدف الذي دفع الكاتب إلى صياغتها بهذه الصورة، والإهداء ليس أمراً جديداً فهو موجود منذ زمن طويل، لكن مع تطور صناعة الطباعة بصورة عامة وازدياد عدد النسخ المطبوعة، ازدهرت الفنون المرتبطة بالكتب ومن بينها الأغلفة وأشكال الخطوط وأيضاً شكل الإهداء الذي يضعه الكاتب ليكون بداية الرحلة مع مضمون الكتاب.
في كثير من الأحيان يكون إهداء الكاتب إلى شخص من أسرته مثل الأم أو الأب أو الزوجة والأمثلة على ذلك كثيرة، ومن الإهداءات المميزة في هذا السياق إهداء الروائي غابرييل غارسيا ماركيز في روايته “الحب في أزمنة الكوليرا”، قائلاً “إلى زوجتي مرسيدس. طبعاً”، وإهداء الكاتبة رضوى عاشور روايتها “الطنطورية” بصورة صريحة ومباشرة إلى زوجها “إلى مريد البرغوثي”.
بعض إهداءات الكتب تمثل نصاً شديد الشاعرية لا يقل عن مضمون الكتاب، ويحدث هذا كثيراً في إهداءات الشعراء ومن بينها ما كتبه الشاعر فاروق جويدة “أنا لم أكُن أدري أن بداية الدنيا لديك وأن آخرها إليك وأن لقيانا قدر”، وإهداء إحسان عبدالقدوس إلى زوجته في رواية “لا تطفئ الشمس”، قائلاً “إلى السيدة التي عبرت معي ظلام الحيرة، والحب في قلبينا، حتى وصلنا معاً إلى شاطئ الشمس… إلى الهدوء الذي صان لي ثورتي، والصبر الذي رطب لهفتي، والعقل الذي أضاء فني، والصفح الذي غسل أخطائي، إلى حلم صباي وذخيرة شبابي وراحة شيخوختي، إلى زوجتي والحب في قلبينا”.
وعن قيمة الإهداء في الكتاب، يقول الكاتب والناقد أحمد صالح “الكتاب بصورة عامة يقسم إلى مجموعة من العتبات، البداية مع الغلاف والعنوان، وأحياناً يكون العنوان غامضاً نسبياً، خصوصاً بالنسبة إلى الروايات، فهو لا بد من أن يكون جاذباً لكن غير كاشف عن طبيعة المضمون، بعدها يأتي الإهداء، وهو يمثل العتبة الثانية وفي بعض الأحيان قد يقرب العنوان نسبياً للنص أو يمثل جسراً بين العنوان والنص، وأحياناً يكون الكاتب مهتماً بقضية معينة ومضمون الكتاب لا يرتبط بها بصورة مباشرة، لكنه يرغب في تقديرها باعتبار أن هذا الأمر أو هذه القضية كانت تشغله خلال هذه الفترة من حياته مثل إهداء كتاب إلى أطفال غزة”.
ويضيف أن “الكاتب يهدي أحياناً قيمة جهده وثمرة إنتاجه إلى شخص يقدره مثل أحد أفراد أسرته أو شخص ذي فضل عليه خلال مسيرته وهذا موجود ومستمر في كل العصور، وبعض الكتاب يتجهون إلى كسر أفق التوقع في إهداءاتهم فتكون غريبة أو غير مسبوقة، فالعلاقة حالياً بين الكاتب والقارئ أصبحت مختلفة، فلم يعُد هناك جدار فاصل بينهما في عصر الـ’سوشيال ميديا‘، وبالطبع أثر ذلك في فكرة الإهداء مثلما أثّر في كل شيء، لكنه لم يلغِه بل ربما جعل بعض الكتاب يسعون إلى تطويره، فظهرت الإهداءات الغريبة المبتكرة”.
اضطهاد الأفكار
في كل عصر كان هناك كتاب لا تتوافق أفكارهم مع المجتمع وقد يعانون الرفض والاضطهاد وعدم القبول بسبب أفكار صادمة أو لا تتماشى مع السياق السائد عند عموم الناس ومن الممكن أن يتطور الأمر إلى ما هو أكثر من ذلك مثل التعرض لأشكال مختلفة من العنف، وفي مثل هذه الحالات تحمل إهداءات هؤلاء الكتاب ربما لمحات من الوضع الذي يعايشونه ويعانونه، بل إن بعضهم وجّه الإهداء إلى أجيال جديدة يأملون في أن تكون أكثر وعياً وأرقى فكراً من أجيال آبائها.
على سبيل المثال كتب الكاتب المصري فرج فودة الذي اغتيل عام 1992 على يد جماعات متطرفة، في إهداء كتابه “نكون أو لا نكون”، “إلى زملاء ابني الصغير أحمد الذين رفضوا حضور عيد ميلاده تصديقاً لأقوال آبائهم عني… إليهم حين يكبرون ويقرأون ويدركون أنني دافعت عنهم وعن مستقبلهم، وأن ما فعلوه كان أقسى من رصاص جيل آبائهم”.
وفعلت الكاتبة نوال السعداوي الأمر نفسه وهي التي عرفت بآرائها التي اعتبرها المجتمع صادمة، بخاصة في ما يتعلق بقضايا المرأة وحصولها على حقوقها، فأصدرت كتابها “الوجه العاري للمرأة العربية” بإهداء، قائلة “إلى بناتي وأبنائي شباب العالم العربي، ومن بينهم ابنتي منى وابني عاطف بأمل أن يكون المستقبل أكثر صدقاً ووعياً من الماضي أو الحاضر”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعن العلاقة بين الكاتب وطبيعة الإهداء، يقول الكاتب المصري أحمد عبدالمنعم “الإهداء بصورة عامة يشكل لمحة عن الكاتب، وشخصياً أحرص على الاطلاع عليه والتأمل في مغزاه، ففي زمن سابق كان الكاتب مستتراً وتواصله محدوداً للغاية مع القراء، ومن هنا فإن الإهداء كان يمثل وسيلة للتعرف إلى جانب من شخصيته، فهو أول مفتاح يمكن من خلاله تكوين انطباع عن الكاتب، وحالياً بالنسبة إلى الكتاب المعاصرين والشباب فإن الإهداء يكون ذا قيمة أيضاً في التعرف إلى طبيعة تفكيره أو اهتماماته”.
ويضيف أن “بعض إهداءات الكتاب تكون للشخص نفسه لكن بأشكال مختلفة، فعلى سبيل المثال أهدى الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو معظم كتبه إن لم يكُن كلها إلى زوجته بيلار، وهنا المتابع للكاتب يمكن أن يتأمل ماذا كتب لها في كل مرة وكيف اختلف شكل الإهداء”.
طرائف وغرائب الإهداءات
بعض الكتاب انتقلت إهداءات كتبهم من التقليدية والمألوف إلى عالم جديد أصبح يمثل نوعاً من أنواع إبهار القارئ أو إثارة الجدل أو تقديم التقدير إلى أشخاص غير متوقعين، والأمثلة هنا كثيرة ومن بينها إهداء الكاتب أدهم الشرقاوي في كتابه “كش ملك”، “إلى مدرس اللغة العربية الذي قذف دفتر التعبير في وجهي وقال ’ستموت قبل أن تكتب جملة مفيدة‘”، وإهداء الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي “أهدي هذا الكتاب أولاً إلى قراصنة كتبي فلا أعرف أحداً انتظر إصداراً جديداً لي كما انتظروه. أنا مدينة لهم بانتشاري. فلولاهم ما فاضت المكتبات بآلاف النسخ، المقلدة طبق الأصل، عن كتبي”.
ومن أمثلة الإهداءات غير المتوقعة إهداء الكاتب السعودي عبده خال في روايته “نباح”، “إلى كل أوغاد العالم، لعنة كبيرة”، ومن بين أطرف الإهداءات إهداء الكاتب المصري بلال فضل ضمن كتابه “في أحضان الكتب” إلى مكتبته، قائلاً “إلى أحب بقاع الدنيا إلي، إلى تحويشة عمري وبهجة زماني وشريكة صباحاتي وونيسة لياليّ ورفيقة ظهرياتي، إلى مغنيتي عن سؤال اللئيم وصحبة الأنذال، أمد مكتبتي، أمد الله عمري في أحضانك”.
وأحياناً يحرص الكاتب على تقدير فئات معينة ربما لا تكون ظاهرة للناس بصورة مباشرة، لكن جهودها تستحق التقدير، فمثلاً أهدت غادة السمان روايتها “كوابيس بيروت” “إلى عمال المطبعة الذين يصفون في هذه اللحظة حروفها على رغم زوبعة الصواريخ والقنابل، وهم يعرفون أن الكتاب لن يحمل أسماءهم. إليهم، هم الكادحون المجهولون دونما ضوضاء كسواهم من الأبطال الحقيقيين الذين يعيشون ويموتون بصمت، ويصنعون تاريخنا، إليهم، هم الذين يكتبون الكتب كلها من دون أن تحمل تواقيعهم، إلى أصابعهم الشموع التي أوقدوها من أجل أن يطلع الفجر، أهدي هذه السطور”.
وعن الإهداءات ذات الطابع المختلف، يقول الكاتب محمد آدم “الإهداء يرتبط بثقافة المجتمع ويعكس جانباً منها، فنوعية الإهداءات ذات الطابع الطريف أو غير المألوف بدأت مع الكتاب الأجانب وانتقلت إلينا عبر الأعمال المترجمة وبدأ بعض الكتاب العرب يحذو هذا الحذو وهي في كثير من الأحيان تكون جاذبة للقارئ وتدفعه إلى استكشاف الكتاب والتعرف إلى محتواه وتمثل شكلاً من أشكال ذكاء الكاتب باعتباره يجعل بداية تصفح القارئ للكتاب جيدة ومشجعة على الاستكمال”.
ويضيف أن “إهداء الكتاب يختلف ويتنوع بحسب طبيعة المضمون، فبالنسبة إلى الروايات مثلاً أحياناً يكون الإهداء إلى شخصية تاريخية مرتبطة بسياق أحداث الرواية بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وأحياناً لا يكون الإهداء إلى شخص ولكن إلى مدينة أو مكان للسبب ذاته وهو ارتباطه بمضمون الكتاب، وأحياناً يكون مباشراً وتقليدياً مثل الإهداء إلى أحد أفراد العائلة أو إلى شخص يقدره الكاتب ويعتبر أن له دوراً في مسيرته فيرغب في تقديره”.
الإهداء في عصر الـ”سوشيال ميديا”
بعض الكتاب حالياً لا يقتصر تواصلهم مع القارئ على مؤلفاته المختلفة لكنه يتفاعل مع الجماهير من قرائه وغيرهم، سواء من خلال الفعاليات المختلفة التي بات انتشارها ملحوظاً مثل حفلات التوقيع والندوات والبرامج التلفزيونية، إضافة إلى التواصل المباشر من خلال المنصات المختلفة على وسائل التواصل الاجتماعي، فبعض الكتاب لا تقل أهمية صفحاتهم على الـ”سوشيال ميديا” عن مؤلفاتهم باعتبارها وسيلة لطرح الأفكار والمناقشات المختلفة حول مواضيع كتبهم أو حول قضايا تمس الشأن العام، وفي الوقت نفسه يمكن أن يتيح لهم ذلك تقديم الشكر أو الإهداءات المختلفة لكتبهم إلى شخص أو جماعة بصورة مباشرة، فهل أثرت الـ”سوشيال ميديا” في الإهداءات التقليدية للكتب؟
يرى الكاتب أحمد عبدالمنعم أن “الـ’سوشيال ميديا‘ لم تؤثر في هذا الأمر لأن ليست لها علاقة بالتواصل المباشر مع القارئ الحالي باعتبار أن هذا الإهداء يمكن أن تطلع عليه أجيال لاحقة بعد أعوام طويلة لم تتَح لها فرصة التواصل مع الكاتب بصورة مباشرة سواء عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي أو غيرها”.
ويتفق الكاتب المصري محمد آدم مع الرأي السابق، موضحاً أن “علاقة الكاتب بالقارئ حالياً اختلفت تماماً عن عصر ما قبل الـ”سوشيال ميديا”، فالكاتب أزال الجدار الرابع بلغة المسرح وأصبح متواصلاً بصورة مباشرة مع الجمهور، ونتيجة لهذا أصبح يعرف كثيراً عن شخصية الكاتب وآرائه ومواقفه لكن في رأيي لم يؤثر هذا في وجود فكرة الإهداء واستمرارها في الكتاب، فليس هناك تعارض لكن هناك اختلافاً في طبيعة علاقة القارئ بالكاتب”.