This post was originally published on الإندبندنت عربية
<p>تظاهرة إثر موت الإصلاحي هو ياوبانغ، بكين، أبريل 1989 (غاريج هو/رويترز)</p>
شكل تحول الصين واعتمادها برنامجاً واسعاً للإصلاح في السنوات التي تلت رحيل ماو تسي دونغ عام 1976، أحد أهم أحداث القرن الـ20. فمع تخفيف قبضة الدولة على الاقتصاد وتقليص سيطرتها على المجتمع في تلك الفترة، قام دينغ شياوبينغ، الزعيم الأوحد للصين من 1978 إلى 1989، بالمساعدة في إطلاق وتحريك القوى التي ستسهم في غضون لا أكثر من عقدين بانتشال مئات ملايين البشر من الفقر المدقع وتحويل الصين إلى معمل العالم وإعدادها لتكون قوة عظمى في القرن الـ21 – والمنافس المنطقي الوحيد للولايات المتحدة الأميركية.
وعلى رغم قيادة دينغ لتلك العملية، إلا أنه استفاد في حينه من مساعدة ومشورة وعمل قائد آخر أقل شهرة، يدعى هو ياوبانغ. على أن الأخير لم يتمتع بالشهرة الواسعة لكل من ماو ودينغ ولرجل الدولة في حقبة ماو، تشو إينلاي. وحتى في الصين نفسها كثيرون من الأشخاص الذين بلغوا سن الرشد بعد عام 1989، قد لا يعرفون كثيراً عن هذا الرجل. لكن كما يبين الباحث في العلاقات الدولية روبرت سوتينغر، في كتابه المعنون “ضمير الحزب: هو ياوبانغ، إصلاحي الصين الشيوعي” (The Conscience of the Party: Hu Yaobang, China’s Communist Reformer)، فإن هو كان شخصية أساسية في عملية “الإصلاح والانفتاح” الكبرى التي جرت آنذاك. فالرجل خلال فترة قيادته للحزب الشيوعي الصيني (الذي أصبح في ما بعد أمينه عام) منذ 1981 إلى 1987، عمل على تقويض السيطرة الإيديولوجية للماوية على السياسات الصينية، مرمماً في السياق حقوق ملايين الأشخاص الذين تعرضوا للتطهير خلال “الثورة الثقافية” التي امتدت بين عامي 1966 و1976، كما أنه بذل جهوداً كبيرة لضمان تطبيق حتميات الإصلاح في إطار هندسة السياسات الصينية. بيد أن التزام هو ياوبانغ بالإصلاح السياسي قاد في النهاية إلى سقوطه، وذلك إثر خلاف مع دينغ أدى، في يناير (كانون الثاني) 1987، إلى إقصائه من منصبه كأمين عام للحزب الشيوعي الصيني. لكنه بقي بنظر الصينيين العاديين – كما المثقفين والطلاب – رمزاً للحركة الديمقراطية السياسية في الصين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتوفي هو ياوبانغ فجأة إثر ذبحة قلبية في أبريل (نيسان) 1989، وحفز في رحيله المفاجئ ذاك واقعة احتلال ساحة تيانانمن المشهودة في بكين من متظاهرين مؤيدين للديموقراطية، كما استدعى موت الرجل تظاهرات مماثلة في أنحاء البلاد. وبعد سبعة أسابيع من التحركات قام دينغ بسحق الاحتجاجات والتظاهرات من دون هوادة، وذلك ضمن مسار أنهى فيه عملية الدمقرطة السياسية التي كان هو ياوبانغ يتطلع إليها. فالفكرة الأساسية بالنسبة إلى هو ياوبانغ كانت ترى أن النمو الاقتصادي وحده لا يكفي لتمكين الدولة الصينية وتطويرها. إذ من دون الشرعية المستمدة من الإصلاح السياسي واعتماد الديموقراطية، فإن الصين ستواجه الاضطرابات في مسار التحديث والتنمية. وقد يظن القادة الصينيون أنهم وجدوا طريقة لكسر تلك العلاقة (بين تمكين الدولة وتحديثها وبين الإصلاح السياسي واعتماد الديموقراطية)، لكن يبقى هناك سبب وجيه كي نرى أن هو ياوبانغ كان محقاً، وأن أولئك القادة إذ يواجهون اقتصاداً متعثراً وسخطاً عاماً متصاعداً، لن يكون لهم خيار في النهاية إلا مواجهة تحذير هو.
صاحب الأفكار المثالية
السيرة التي كتبها سوتينغر تقدم صورة رائدة عن هو ياوبانغ، فتستكشف بعمق وشمولية طبيعة ذلك الرجل وكيفية بروزه كقائد ذي تطلعات إصلاحية طموحة في عالم يسيطر عليه الرفاق (الحزبيون). ويأتي كتاب سوتينغر ليشكل أول سيرة متكاملة لحياة هو ياوبانغ باللغة الإنجليزية. لكن سوتينغر، الذي كان ضابطاً في جهاز الاستخبارات الوطني خلال إدارة كلينتون وباحثاً ذا خبرة طويلة في الشؤون الصينية، لا يعد أول أكاديمي أميركي يحاول إنجاز عمل كهذا. إذ إن الباحث الاجتماعي عزرا فوغل، المتوفى عام 2020، رحل قبل إتمامه كتابة سيرة حياة هو ياوبانغ، التي أرادها كتاباً ضمن سلسلة كتب مماثلة تضم مؤلفه السابق المعنون “دينغ شياو بينغ وتحول الصين” (Deng Xiaoping and the Transformation of China)، سيرة حياة دينغ التي كتبها ونالت استحساناً كبيراً. فالزعيمان الصينيان المذكوران أشبه بقرينين، إذ إنهما برزا وتراجعا معاً خلال عقود حكم ماو المضطربة، قبل أن يصلا في ما بعد إلى السلطة إثر موت ماو. وتجربة هو ياوبانغ بجزء كبير منها ستتأثر جذرياً في نهاية المطاف بخلافه مع دينغ، ذاك الخلاف القائم على تباين رؤيتهما في مسألة الإصلاح.
إن مهمة رسم صورة متكاملة لحياة هو ياوبانغ ليست باليسيرة، فالعائق الأبرز بهذا السياق، الذي يبدو تجاوزه عصياً بالنسبة لكل كاتب سيرة، يتمثل بعدم القدرة على الوصول إلى المصادر الأرشيفية والأصلية الأولى، التي تبقى في حالة هو ياوبانغ محجوبة أمام الباحثين الصينيين والغربيين. وفي هذا الإطار أمضى سوتينغر نحو عقد سنوات باحثاً عن الوثائق ومقابلاً معاصري هو ياوبانغ، وقد تمكن بفضل ذلك من الغوص عميقاً في حياة هو عبر سبل لم يسلكها قبله أي باحث غربي. وجاءت النتيجة عملاً دقيقاً لا يصور هو ياوبانغ كزعيم إصلاحي جسور ورصين وحسب، بل يضيء أيضاً على نقطة تحول مهمة وأساسية في تاريخ الصين الحديث.
لقد كان هو ياوبانغ رجلاً مثالياً وصادقاً ومخلصاً وعفوياً، كما يصفه كثيرون ممن عرفوه وعملوا معه. ولد عام 1915 بإقليم هونان، في أسرة ريفية فقيرة لكن متعلمة، إذ تلقى بدعم من والديه حين كان صغيراً تعليماً جيداً على رغم صعوبة الظروف المحيطة، فطوال سنوات عديدة كان عليه أن يمشي كل يوم مسافة 20 كلم تقريباً في مسارات جبلية وعرة كي يصل إلى المدرسة. وحين بلغ سن الـ14 التحق برابطة الشباب الشيوعي، الجناح الشبابي للحزب الشيوعي الصيني، وانضم على الأثر إلى القتال. وحقيقة أنه متعلم مقرونة بإيمانه بالثورة وحماسته للعمل، ساعدته في البروز بسرعة في صفوف الجيش الأحمر (الذي سيتحول في ما بعد إلى “جيش التحرير الشعبي”) والحزب الشيوعي الصيني. ونجا من الموت خلال “المسيرة الطويلة” المروعة والأسطورية – حين انسحب الجيش الأحمر بين عامي 1934 و1935 إلى مناطق الصين الداخلية – على أن ذلك لم يسهم إلا في تعزيز مكانته داخل الحزب. وحين سيطر الحزب الشيوعي الصيني على البلاد عام 1949، كان هو ياوبانغ يعد أصغر مفوض سياسي في صفوف الجيش.
إلا أن تلك المسيرة لم تكن سهلة بمفاصلها ومحطاتها كافة. ففي عام 1932، وكجزء من حملة لقمع من افترض أنهم “رجعيون” في أوساط الحزب، اتهمه عملاء ماو من دون أي دليل بالعمالة. ولم يتمكن هو ياوبانغ على الأثر من الهرب من حكم الإعدام في اللحظة الأخيرة إلا بفضل تدخل مفتشين من “رابطة الشباب الشيوعي” كانا يدركان أنه رفيق مخلص. وفي مطلع الأربعينيات، خلال حملة أطلقها ماو لتشديد سيطرته على الحزب، كان على هو ياوبانغ وأعضاء آخرين في الحزب معايشة فترة تعذيب نفسي جراء عمليات النقد الذاتي اللانهائية. وأسهمت محن عديدة على هذا المنوال، وفق ما يشير إليه سوتينغر، في زراعة بذور الشك في عقل هو ياوبانغ تجاه الماوية ونزوعها إلى محاولات وحشية للتحكم بأفكار الناس وتصرفاتهم.
فكرة هو ياوبانغ الأساسية تمثلت في إيمانه أن “النمو الاقتصادي وحده غير كاف لتمكين الصين وتطويرها”
إلا أن هو ياوبانغ على رغم ذلك بقي وفياً للحزب بعد أن تمكن الشيوعيون من إبعاد القوميين إلى تايوان وتأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، وسنحت له بعد وقت قصير فرصة العمل مع دينغ. إذ شغل هو ياوبانغ من عام 1950 حتى 1952 منصب السكرتير المحلي للحزب الشيوعي الصيني في إقليم سيتشوان الشمالي، فكان يرسل تقاريره مباشرة إلى دينغ، الذي كان آنذاك يترأس الحزب في ذلك الإقليم. وتمكن هو ياوبانغ من دحر فلول قوات القوميين من المنطقة، وقام باستعادة النظام عقب الحرب الأهلية، مجرياً عملية إصلاح عقارية ومروجاً للإنتاج في مجالي الزراعة والصناعة. وأكسبته تجربته الفذة وتفانيه للعمل إعجاب دينغ وتقديره، كذلك فإن إنجازات الرجلين المشتركة لفتت انتباه كبار القادة في بكين.
وبحلول عام 1953، رقي هو ياوبانغ إلى جانب دينغ إلى مناصب وطنية، ونقل الأول إلى بكين لتولي منصب السكرتير ثم السكرتير الأول لرابطة الشباب الشيوعي، بيد أن هو ياوبانغ في ذلك المنصب انخرط في سلسلة من الجهود الماوية الكارثية، منها “الحركة المناوئة لليمين”، التي مثلت حملة سياسية لتطهير منشقين مفترضين من صفوف المثقفين وأوساطهم، و”القفزة العظيمة إلى الأمام”، التي مثلت نزعة اقتصادية واجتماعية بدأت عام 1958 ونتج منها مجاعة مروعة، و”حركة التعليم الاشتراكي”، وهي حملة لتعميق التلقين الإيديولوجي في أوائل إلى منتصف ستينيات القرن الـ20.
وبذل هو ياوبانغ جهوداً كبيرة للانخراط في تلك الحركات والحملات، وذلك عبر التزامه بجميع الأوامر الصادرة من بكين وتنفيذها بالقدر الأكبر من الأمانة. إلا أنه بدأ يشعر بالانزعاج من الطريقة التي راح من خلالها كثيرون من رفاقه والعاملين معه يتهمون، ومن دون إثبات، بأنهم “يمينيون”، كما راح يستاء من المعاناة اليومية التي تكبدها الناس في إطار “القفزة العظيمة إلى الأمام”. وزرعت تلك التجارب في داخله شكوكاً أعمق تجاه البرنامج اليوتوبي الذي اعتمده ماو تحت مسمى “الثورة المستمرة”. وخلال مؤتمر اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني في لوشان عام 1959، أبدى هو تردداً في ركوب موجه الانتقاد العام لـ بينغ ديهواي، وزير الدفاع السابق الذي اتهمه ماو بترؤس “عصبة معادية للحزب” بعد إبدائه ملاحظات انتقادية لـ”القفزة العظيمة إلى الأمام”. وعلى نحو لم يكن مفاجئاً، حين انطلقت “الثورة الثقافية” عام 1966، قام ماو بتجريد هجوم شرس وحاد على هو ياوبانغ وقادة آخرين في “رابطة الشباب الشيوعي”. واستدعي الأخير مراراً للخضوع لجلسات شجب، إذ يقوم “الحرس الأحمر” بتوجيه الاتهام له ومهاجمته، ويهان على الملأ وأمام الجماهير. دينغ من جهته عانى أيضاً هذا التضييق خلال “الثورة الثقافية”، إذ جرى “تطهيره” مرتين من ماو وحلفائه.
وفي عام 1969، قام العملاء الماوييون في مركز “رابطة الشباب” بإبعاد هو ياوبانغ إلى مزرعة في إقليم هينان “لإعادة تثقيفه”. وهناك فرض عليه تنفيذ أعمال يدوية شاقة كل يوم تقريباً، فتعرض في تلك الفترة لمعاناة شديدة. وفي عام 1971، بعد موت لين بياو أحد ضباط ماو الأساسيين، سمح له بالعودة لبكين من دون رد الاعتبار بالكامل له في صفوف النخبة الحزبية. وراح آنذاك يقرأ بنهم – وشملت قراءاته أعمالاً ماركسية كلاسيكية، والتاريخ الصيني، وكتباً في الفلسفة والأخلاق، وحتى مسرحيات مترجمة لشكسبير. وغدا أكثر نقدية تجاه الماوية بجانبيها النظري والتطبيقي. وعندما مات ماو في سبتمبر (أيلول) 1976، وبدا النظام القديم في حالة تداعي، كان هو ياوبانغ حاضراً للمضي في القضية الجذرية المتمثلة بانتهاج عملية الإصلاح الصينية.
فتح باب الاحتمالات
قاد موت ماو في عام 1976 لفترة عدم يقين اشتد فيها التنافس بين أطراف متعددة للوصول إلى السلطة، وفي تلك الأجواء قرب هو ياوبانغ نفسه من دينغ، هذا الأخير الذي كان ينهي فترة النفي الثانية التي تعرض لها خلال “الثورة الثقافية”. وفيما كان مناوئو دينغ، من ضمنهم هوا غوفينغ الذي اختير لخلافة ماو، يدعون إلى التمسك بـ”أي قرار مهما كان” – الشعار الذي يعني “أننا بالتأكيد سنؤيد أي قرار يتخذه الزعيم ماو، وننفذ كل التعليمات التي يصدرها ماو مهما كانت” – إذ سعى هو ياوبانغ لسلوك مسار مختلف. وفي مايو (أيار) 1978، قامت صحيفة “غوانغمينغ دايلي”، التي تعد بمثابة أداة ترويج إيديولوجي، بنشر مقالة كتبتها مجموعة من الأساتذة في “مدرسة الحزب المركزية” (التي كان هو آنذاك نائب رئيسها التنفيذي، وراجع المقالة بنفسه قبل نشرها) تحت عنوان “الممارسة هي المعيار الوحيد لاختبار الحقيقة”. ورأى كتاب المقالة أنه ينبغي اختبار الحقيقة وإثباتها عبر الممارسة – مما مثل انتقاداً ضمنياً لجمود العقيدة الماوية ولادعائها بامتلاك الحقيقة. وولدت المقالة المذكورة موجات صادمة في مفاصل النظام كافة، كما أسهمت عملياً في تقويض شرعية هوا (كون موقعه كقائد أعلى للصين اعتمد كلياً على قرار ماو)، ورفضت القيود التي فرضها ماو وعقيدته على الصين. وجاء ذاك الوابل الإيديولوجي (الإصلاحي) ليمنح دينغ دعماً كبيراً في موقعه بمواجهة هوا ومن حوله بسياق الصراع الداخلي ضمن الحزب، وهذا ساعد دينغ في نهاية المطاف بأن يصبح الزعيم الأعلى للصين عام 1978.
وصعود دينغ ذاك رافقه صعود هو ياوبانغ، الذي غدا في ديسمبر (كانون الأول) 1977، رئيساً للدائرة التنظيمية المركزية بالحزب الشيوعي الصيني. وسعى الرجل عبر دوره هذا إلى تصحيح مظالم “الثورة الثقافية” وغيرها من الحملات السياسية الماوية. وتحت إدارة هو ياوبانغ وبفضل تعليماته جرت إعادة تأهيل عشرات الآلاف من كوادر الحزب الشيوعي الصيني، بمن فيهم مئات من كبار المسؤولين، وعينوا في مناصب رسمية. كما ساعد هو ياوبانغ بالإطار ذاته في إنهاء ظاهرة نبذ عشرات ملايين من المواطنين العاديين الذي عاشوا المعاناة في ظل مبادرات وبرامح ماو الهدامة، وسمح لهم أن يعيشوا حياة عادية. وأسهمت تلك الجهود الهادفة لتصحيح تجاوزات الحقبة الماوية في منح هو ياوبانغ تأييداً كبيراً بأوساط الحزب كما في الأوساط العامة الأعرض. وفي عام 1981 عين هو ياوبانغ رئيساً للجنة المركزية في الحزب الشيوعي الصيني مستبدلاً هوا (تسمية هذا المنصب ستغدو في السنة التالية “أمين عام اللجنة المركزية”)، مما سمح له أن يغدو عملياً اليد اليمنى لدينغ في مسار إطلاق الإصلاحات والترويج لها.
وبين عامي 1978 و1982، طور دينغ وهو ياوبانغ سلسلة سياسات هادفة إلى فتح اقتصاد الصين. وتضمنت تلك السياسات التخلي عن النظام الاقتصادي الجامد المخطط له مركزياً والمستمد من الاتحاد السوفياتي، وإنهاء الملكية الزراعية الجماعية، واعتماد بعض آليات السوق، والسماح للاستثمارات الاجنبية بالدخول إلى البلاد، والسعي إلى تجارة أكبر مع الدول الغربية، وإرسال الطلاب الصينيين للدراسة في الخارج. ونتيجة تلك الإصلاحات شهد الاقتصاد الصيني عموماً حالة انتفاخ – فبلغت معدلات النمو السنوية نحو 10 في المئة على مدى ذلك العقد – كما ازدادت الانتاجية. إذ إن حصة الصين من الناتج الإجمالي العالمي على أساس تعادل القوة الشرائية كانت قبل الإصلاحات ناهزت اثنين في المئة، أما اليوم فهي نحو 20 في المئة.
وعلى نحو مثير للاهتمام يركز سوتينغر في كتابه على مساهمات هو ياوبانغ الداخلية في تلك الفترة، ويشير إلى التناسي الشامل للدور الذي قام به وأسهم من خلاله في تبديل موقف الصين تجاه العالم الخارجي. إذ إن الصين خلال حقبة ماو كانت عدت نفسها بلداً ثورياً مصمماً على تحدي النظام الدولي القائم ومؤسساته التي تهيمن عليها الولايات المتحدة الأميركية ودول رأسمالية غربية أخرى. أما هو ياوبانغ فكان من القادة الصينيين الطلائع الذين رؤوا أن هناك حاجة إلى أن تخفف الصين من نزعتها الصدامية الخالصة، وتغدو أكثر تعاوناً، فتسلك في السياسة الخارجية مساراً يتطلع إلى المستقبل.
وفي مطلع الثمانينيات لعب هو ياوبانغ دوراً أساساً في مراجعة الاستراتيجية العامة التي ينتهجها الحزب الشيوعي الصيني، وتلك مراجعة قادت الحزب إلى نبذ أفكار ماو القائلة إن هناك حرباً عالمية جديدة محتومة، وجعلته في المقابل يتوصل إلى إجماع يرى أن مصلحة الصين تفترض القيام بسعي حثيث إلى بناء بيئة خارجية يسودها السلام، فالعلاقات الجيدة مع العالم الخارجي ستسمح للبلاد في التركيز على التنمية الاقتصادية واعتماد حداثة اشتراكية. وشكل هو ياوبانغ في هذا السياق مسار التغيير، وفهم أن الانفتاح على العالم يمكن أن يسرع الاصلاحات في الداخل.
وكان هو عام 1979 مؤيداً بقوة لتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية، داعياً إلى علاقة تسودها الصداقة بين البلدين، كما أيد تطوير علاقات التعاون بين الصين وخصمها الأول واللدود، اليابان، حتى أنه انخرط شخصياً في تلك الجهود (إذ دعا عام 1983 نحو 3 آلاف طالب ياباني لزيارة الصين)، كذلك سعى إلى تحسين علاقات بكين بلندن عبر قيامه بزيارة المملكة المتحدة، واستقبال الملكة إليزابيث خلال زيارتها الرسمية لبكين عام 1986، تلك الزيارة التي أسهمت في منح مزيد من الصدقية لوعود دينغ القائلة إن الصين لن تبدل الوضعية الخاصة لهونغ كونغ حتى عام 2047.
تقاعد مبكر
ومع دينغ قائد أعلى، وهو ياوبانغ سكريتير عام، بدت الصين سالكة مساراً إصلاحياً لا يني يتوسع طوال معظم حقبة الثمانينيات، إلا أن ذلك لم يكتمل ويتحقق. ففي نحو عام 1984، دخل دينغ وهو ياوبانغ وآخرون من كبار الحزب الشيوعي الصيني مرحلة خلافات تتعلق بسبل إكمال المسيرة. وتمحورت نقطة الخلاف الأهم حول ما إذا كان ينبغي خلق مزيد من الضوابط والتوازنات في نظام الحزب الشيوعي الصيني، وهو الأمر الذي أراده هو ياوبانغ. في البداية بدا دينغ مؤيداً لتلك المقاربة أيضاً. لكنه، ومع تعزيز سلطته وسيطرته، راح يزداد قلقاً من أن تؤدي إصلاحات كهذه إلى تبني الديموقراطية وفق الصيغة الغربية، وإلى تهديد أحادية حكم الحزب الشيوعي الصيني وسيطرته على البلاد. وعلى رغم أن دينغ كان مستعداً لتعزيز الإصلاحات الاقتصادية وفتح اقتصاد البلاد، إلا أنه قام مراراً بدعوة الحزب والبلاد إلى محاربة “التوجه الليبرالي البورجوازي” والحفاظ على “المبادئ الأساسية الأربعة”، والتمسك “بالمسار الاشتراكي” وديكتاتورية البروليتاريا، ودعم قيادة الحزب الشيوعي الصيني للبلاد، والالتزام بالأفكار الإيديولوجية الماركسية – اللينينية والماوية. أما هو ياوبانغ في المقابل وعلى نحو مناقض، فأراد المضي قدماً في مسار الدمقرطة السياسية. وهكذا ظهر شرخ بين الرجلين، إذ حين راح دينغ يثابر في التشديد على الحاجة إلى مقاومة “التوجه الليبرالي البرجوازي”، كان هو ياوبانغ يتحدث بصراحة عن الحاجة إلى مزيد من الديموقراطية وحرية التعبير، وتطوير مشاركة الجماهير في السياسة. وراحت خيبة أمل دينغ تزداد إزاء صراحة هو ياوبانغ، وبدأ يفقد ثقته بحليفه القديم.
والخلاف بلغ حده مع دعوة هو ياوبانغ العامة عام 1985 إلى “تجديد شباب” قيادة الحزب الشيوعي التي أصابها الهرم. وبدأ في ذلك السياق بالحديث عن نفسه قائلاً “أكاد شخصياً أبلغ الـ70، وبت على وشك التقاعد. أولئك الرفاق القدامى الذين تجاوزوا سن الـ80، وربما أكبر، عليهم الاستقالة”. دينغ من جهته لم يرفض أبداً ذاك الاقتراح، بل ألمح أيضاً إلى أنه قد يكون مستعداً للتقاعد. لكن استعداده الذي أظهره كان مجرد ادعاء، إذ حين ذكر هو ياوبانغ بطريقة ساذجة أن دينغ قد يمثل قدوة جيدة إن “بادر إلى التقاعد”، بدا الأمر متجاوزاً الحد بالنسبة إلى الزعيم الأعلى. وفي يناير (كانون الثاني) 1987، خلال “اجتماع حياة ديموقراطية” حضره كبار قادة الحزب وترأسه دينغ وكبار سن آخرون، أجبر هو ياوبانغ على الاستقالة من منصب الأمين العام. وبهدوء تقبل الرجل تقريباً كل الاتهامات التي وجهت إليه، إذ رأى، وفق مروية سوتينغر، “أن هناك حاجة إلى الحفاظ على الاستقرار والوحدة في صف القيادة”.
على أن هذا المشهد المعبر لم يشكل ختام قصة هو ياوبانغ، فعلى رغم إخراجه من خشبة المسرح السياسي الصيني، استمر طيفه مخيماً على ذلك المسرح. أشخاص كثيرون في البلاد ظلوا يعدونه “ضمير الحزب” – وذاك الوصف لم يكن مجرد مديح، بل عنى أيضاً أن الحزب ضل طريقه من دونه. وفي السنوات التي تلت استقالة هو ياوبانغ راحت الهوة بين التحول الاقتصادي والاجتماعي المتسارع، من جهة، وبين الركود السياسي، من الجهة الأخرى، تنتج باستمرار توترات بين الدولة وبين فكرة المواطنة، وأيضاً حساسيات في داخل المجتمع الصيني. وانتشرت في كل مكان وعلى نحو واسع مشاعر السخط والقلق تجاه الوتيرة المتصلبة للاصلاح السياسي.
وحين توفي هو ياوبانغ في أبريل (نيسان) 1989، قام الطلاب في بكين – وأيضاً مواطنون من كل مشارب الحياة آنذاك – بالإسراع في ترجمة حدادهم عليه إلى تظاهرات عامة تعبر عن إحباطهم وغضبهم تجاه غياب الإصلاح السياسي وتفشي الفساد. وتدفق المتظاهرون إلى ساحة تيانانمن في بكين. وما حصل على الأثر غدا لحظة فاصلة في تاريخ الصين. ففي الرابع من يونيو (حزيران) قام دينغ وقادة آخرون كبار في الحزب الشيوعي الصيني بإصدار الأوامر للجيش لقمع الطلاب والمتظاهرين الآخرين، وكانت النتيجة مأساة دامية صدمت العالم.
تحذير هو ياوبانغ
بعد أكثر من أربعة عقود على انطلاق مشروع الإصلاح والانفتاح، تقف الصين اليوم عند نقطة انعطاف أخرى. نموها الاقتصادي خلال حقبة الإصلاح كان استثنائياً، وفي عام 2010 غدت ثاني أكبر اقتصاد في العالم. ذاك النجاح له أسباب عديدة، لكن أحد أهم عوامله تمثل بأن الصين خلال حقبة الإصلاح والانفتاح تمتعت بفترة سلام مديدة. فهي وبإشراف هو ياوبانغ وأمثاله سعت إلى إقامة علاقات ودية مع العالم الخارجي وإلى تجنب المواجهات، خصوصاً مع الولايات المتحدة الأميركية.
غير أن الرؤية الأخرى للإصلاح السياسي – التي آمن هو ياوبانغ بها – بقيت، وعلى نحو مقصود، غير منجزة، فالحزب الشيوعي الصيني ما زال راسخاً ومسيطراً في بكين. وتبدو آفاق النظام السياسي الذي يتمتع بمزيد من الضوابط والموازين بعيدة المنال، إذ منذ حكم دينغ وما تلاه راحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني تستفيد استفادة كاملة من النمو الاقتصادي السريع والمتواصل، وذلك لتعزيز شرعيتها واكتساب الفضل في كل ما حققته الصين من نجاحات اقتصادية. إلا أن الشرعية على هذا النحو المحدد تعتمد على أداء قوي مستمر، أي إن النمو الاقتصادي الصيني المتسارع يجب أن يدوم إلى الأبد إن أرادت الحكومة التمتع بالشرعية المصاحبة لهذا السجل الاقتصادي. لذا فإن التباطؤ الراهن في الاقتصاد الصيني يمثل مسألة أكبر من مجرد مسألة اقتصادية، فهو يشكل تحدياً جدياً للدولة الصينية. في حقبته فهم هو ياوبانغ هذه المسألة، ولهذا السبب أراد من الصين أن تتبنى إصلاحات سياسية أكبر، وأن تضع آليات تلبي مطالب الشعب الصيني وتطلعاته الاجتماعية والأخلاقية والمعنوية.
بيد أن هذه الاحتياجات في الصين تبقى اليوم من دون معالجة، وذاك عجز يؤدي على نحو دوري إلى تأجيج التوترات بين الدولة الصينية والمجتمع، كذلك بين الصين ودول أخرى. هو ياوبانغ رأى ذلك قادماً واستشرفه، إذ حتى في الوقت الذي سعى فيه إلى إعادة تشكيل موقع الصين وصورتها في العالم، كان فهم أن التحديات الأكبر التي يواجهها هذا البلد الكبير لا تأتي من الخارج، بل من داخله.
تشين جيان، مدير “المركز الدولي للتاريخ والاقتصاد والثقافة” في جامعة نيويورك في شانغهاي و”جامعة شرق الصين العادية”، وزميل دولي في “مركز وودرو ويلسون الدولي للباحثين”. له كتاب “تشو إينلاي: سيرة حياة”.
مترجم عن “فورين أفيرز”، 1 يناير (كانون الثاني) 2025