تطبيقات الدردشة… السؤال بأدب والإجابة مشروطة

This post was originally published on الإندبندنت عربية

<p>الأدلة العلمية تدعم ما قد يبدو أنه مجاملة رقمية مفرطة في التعامل مع تطبيقات الدردشة (أ ف ب)</p>

على سبيل التجربة أو من باب حب الاستطلاع البحثي، وأحياناً لأن المستخدم يكون فظاً بالفطرة، أو جلفاً بالسليقة، أو يفتقد التهذيب بسبب نقص في التربية أو عوار في التنشئة، تمطر رأس “سيري” وبنات وأبناء عمومها الممتدين والمنتشرين في ربوع المعمورة من “أليكسا” و”روبين” و”غاسبر” و”بيكسبي” و”رايتر” وغيرهم على مدار الساعة بكلمات خارجة، وأسئلة غير لائقة يصل بعضها إلى درجة الفحش.

هامش عدم اللياقة

لحسن الحظ أن هامش عدم اللياقة والخروج على الآداب العامة في هذه التعاملات ليس القاعدة الأكثر شيوعاً، وإن لم يكن الأكثر انتشاراً، هو “قلة الذوق” في التعامل مع “سيري” و”الأسرة”.

النصيحة التي يوجهها الخبراء هي التوقف عن شتم “سيري”، وامتنع عن لعن “جاسبر”، فكر مرتين قبل أن تكون فظاً مع “أليكسا”، فقد تكون العواقب وخيمة، أما ساحة “تشات جي بي تي“، فلا تزال تعاني قدراً من التسيب، ويعتريها كم غير قليل من هوامش تسمح بما لا ينبغي السماح به.

المحذرون والناصحون ليسوا خبراء “الإتيكيت” والأدب بل إنهم المتخصصون في شؤون التقنيات الرقمية والاستخدامات المثلى لتطبيقات “المساعد الشخصي الذكي”، يرغبون في تعظيم فوائد الاستخدام وتحسين أداء التطبيقات، وعدم إهدار طاقات وإمكانات تقنية يمكن الاستفادة بها بدلاً من هدرها لمجرد أن المستخدم قرر أن يكون فظاً.

يبدو الأمر غريباً، لكنه واقع مثبت علمياً، كثيرون ممن مصنفون في حياتهم اليومية باعتبارهم أشخاصاً مهذبين يتبعون قواعد الذوق وأساسيات الأخلاق في التعامل مع غيرهم، يتعاملون مع الرفيق الرقمي بفظاظة وسخافة، وقلة ذوق في طلب الخدمات أقلها عدم قول “من فضلك” و”شكراً”.

الابتذال والفظاظة

الأكاديمية المتخصصة في أنظمة المعلومات بجامعة “ولاية ميسوري” الأميركية شيريل برانام تقول إن “بحوثاً ودراسات عدة أثبتت أن كثيرين حين يتعاملون مع أنظمة وتطبيقات ذكاء اصطناعي يعمدون إلى انعدام التهذيب، وافتقاد اللياقة والذوق، لدرجة أن بين 10 و50 في المئة من تعامل البشر مع التطبيقات القادرة على التحدث وسماع طلبات المستخدمين لتلبيتها تكون مسيئة”.

ووجدت برانام بعد عديداً من البحوث والدراسات المتعلقة بتصرفات البشر وسلوكياتهم في التعامل مع تطبيقات الدردشة والمساعدين الشخصيين الرقميين أن كثيرين يعمدون إلى استخدام الصوت العالي والتعليقات المبتذلة معها.

فرق كبير بين أن تطلب كوباً من الماء من مساعدة المنزل آمراً إياها “كوب ماء بسرعة”، أو “من فضلك كوباً من الماء” ثم “شكراً”، إنه الفرق نفسه بين أن تطلب من “سيري” وأخواتها، أو “تشات جي بي تي” معلومات عن الحرب النووية المحتملة أو حلول الشرق الأوسط المقترحة أو طريقة عمل فطيرة التفاح الخفيفة بلهجة آمرة ونبرة متغطرسة، أو بلطف في الأسلوب وعبارات ذات مفعول السحر مثل “لو سمحت” و”شاكر فضلك”.

المجاملات الرقمية

يقول خبير الذكاء الاصطناعي التوليدي برنارد مار، إن زوجته ضحكت كثيراً حين فوجئت به يتحدث مع “تشات جي بي تي” مستخدماً كلمات مثل “من فضلك” و”شكراً”، وإنه شخصياً لم يلحظ أنه يفعل ذلك إلا بعد ما ضحكت زوجته.

ويتساءل مار في مقال نشر خلال الشهر الجاري في “فوربس” عنوانه “لماذا يجب أن تكون مهذباً في التعامل مع (تشات جي بي تي) وغيره من أنظمة الذكاء الاصطناعي”، مشيراً إلى أن الأدلة العلمية تدعم ما قد يبدو أنه مجاملة رقمية مفرطة، وأن هناك فائدة رائعة مزدوجة في التعامل مع أنظمة الذكاء الاصطناعي باحترام وتهذيب، مضيفاً “هذا لا يحسن فقط بصورة كبيرة جودة النتائج البحث، بل يعزز قدرات البشر القيادية لأنظمة وتطبيقات وخدمات رقمية بدأنا للتو في فهم بعض جوانبها”.

الأمر لا يتعلق فقط بآداب السلوك، لكن يتعلق بأثر اللغة في أداء المحيطين، سواء كانوا بشراً أو أنظمة وتطبيقات، في التواصل بين البشر وبعضهم بعضاً، غالباً تحظى اللغة المهذبة بقدر أوفر من الفعالية والتوافق، والعكس صحيح، أن تؤدي الوقاحة في اللغة إلى النفور، وهو ما يؤثر سلباً على استجابة الآخرين.

قليل من الأدب لا يضر

الدراسة التي أجرتها مجموعة من الباحثين في جامعة “واسيدا” اليابانية ونشرت في فبراير (شباط) الماضي حول أثر اللغة المستخدمة على “نماذج اللغة الكبيرة” المستخدمة في الذكاء الاصطناعي وجدت أن القاعدة نفسها تنطبق على الطريقة التي ينتهجها البشر في التعامل مع التطبيقات الرقمية الخدمية.

 

تشير الدراسة، وعنوانها “هل يجب أن نتعامل باحترام مع نماذج اللغة الكبيرة” إلى أن “نموذج اللغة الكبيرة” LLM هو مرآة للتعاملات والتفاعلات البشرية، وإنها تتناسب وتتماشى والمعايير الثقافية، ووجدت أن المطالبات غير المهذبة غالباً تؤدي إلى ضعف أداء التطبيق أو البرنامج، إضافة إلى زيادة الأخطاء والتحيزات والإغفال الملحوظ للمعلومات المهمة.

الأداء والأدب

 في الوقت نفسه، اتضح أن الإفراط في الذوق والأدب لا يحسن نتائج البحث بالضرورة، بمعنى آخر، خير الأمور الوسط، ولو كان التعامل بين بشر وآلة أو تطبيق، كما خلصت الدراسة إلى أن نتائج البحث في هذه التطبيقات أو التي يقدمها المساعد الرقمي الشخصي مثل “سيري” تتأثر بحسب اللغة وسياقاتها الثقافية المختلفة، لكن تظل القاعدة هي أن القليل من الأدب والتهذيب لا يضر، حتى وإن كان الآخر تطبيقاً أو آلة.

تجدر الإشارة أن “نماذج اللغات الكبيرة” أو LLM هي نماذج تعليم كبيرة جداً مدربة مسبقاً لاستيعاب كميات هائلة من البيانات، وفيها وحدتا تشفير وفك تشفير، ومزودة بإمكانات للانتباه الذاتي والقدرة على التقاط سمات معينة في اللغة، حيث تقوم الوحدتان باستخراج المعاني من التسلسل النصي، كما تفهمان العلاقات بين الكلمات والعبارات.

وتكتسب هذه النماذج خبرات وقدرة أكبر على الفهم بمرور الوقت وكثرة التعرض للنصوص، فتزداد قدرتها على الربط المنطقي، واستخلاص النتائج، وتنمية قاموسها ومفرداتها، بما في ذلك قدراتها النحوية ومخزونها المعرفي.

أنواع المخزون المعرفي

المخزون المعرفي أنواع وأشكال والقدرات النحوية درجات وفئات، وهناك من يعتبر الشتائم أو الكلمات الخارجة أو الخادشة للحياء جزءاً من مخزونه المعرفي وقدراته اللغوية، بل ويرى البعض أن التخلص من هذا المكون لدى الحديث مع تطبيقات الدردشة أو المساعد الرقمي هو حمل إضافي ومجهود لا طاقة له به.

ولأن البعض اعتاد استخدام كلمات يصنفها آخرون بأنها “مبتذلة”، وهو الاعتياد الذي يتحول إلى أمر واقع يصعب تعديله، يظهر بين الوقت والآخر مطالبات بابتكار مساعد رقمي مثل “سيري” و”أليكسا”، أو ترك مساحة في “تشات جي بي تي” لمن اعتاد أن يتحدث مستخدماً كلمات تعتبرها بعض التطبيقات غير لائقة، فتمتنع عن الإجابة، أو توجه رداً مثل “عفواً لا أفهم مثل هذه الكلمات” أو “عذراً لم يجر تدريبي للتفاعل أو فهم هذه الأشياء”.

كيف أضايق “سيري”؟

الطريف أن أسئلة كثيرة تحفل بها صفحات تبادل الخبرات تسأل عن طريقة لمنع “سيري” وأخواتها من ترديد همهماتها الدالة عن عدم رضاها أو ارتباكها لدى سماعها كلمة أو عبارة فيها شبهة إباحية أو انعدام تهذيب، أو حتى في حال قال المستخدم جملة أو طلب طلباً في غموض بالنسبة لها، “آها” أو “هاه” وغيرهما من كلمات تدل على الحيرة، وربما عدم الرضا، تغضب البعض ويبحث عن طريقة لإجبار “سيري” على عدم التفوه بها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي السياق نفسه، يطرح البعض أسئلة مثل “كيف أدرب سيري على الوقاحة؟” أو “ما الطريقة التي أجعل بها “أليكسا” تجاريني في بعض المشاعر لمن هم فوق سن الـ18 سنة؟” وغيرهما، بل إن صفحات “ويكي هاو” عامرة بأسئلة يطرحها أفراد مثل “كيف أزعج سيري؟” وإجابات يتبرع بها “خبراء” مثل اسألها أسئلة مربكة أو غير مفهومة، أخبرها أنك تكره صوتها، أو قل لها إن صوتها يغضبك.

وعلى رغم أن قياسات عدة أجريت لمعرفة إذا كان المساعد الشخصي الرقمي تجعل المستخدمين البالغين أكثر وقاحة أو فظاظة، وذلك على أساس أن أحداً لا يراقبهم أو يسمعهم أثناء تعاملهم أو دردشتهم مع هذه التطبيقات، إلا أنه يظل هناك بعض ممن يخرق قواعد الأدب والذوق.

أسباب الفظاظة

وأشارت دراسة أجراها باحثون في جامعة “بنتلي” الأميركية إلى أن التصميمات الرقمية التي تحاكي الإنسان، لا سيما التي تتكلم، تتسبب أحياناً في رفع سقف التوقعات لدى المستخدم، وحين تأتي النتيجة مخيبة لهذه التوقعات، يعبر البعض عن غضبه بتعمد الوقاحة.

وبين المستخدمين من يشعر بالتهديد أو الخوف أو القلق بسبب التفاعل “البشري” مع غير البشر، وهذا قد يدفع إلى التصرف بعدوانية.

الدراسة التي تحمل عنوان “الآثار الأخلاقية لتجربة التعامل مع التشات بوت” ذكرت مثالاً لرصد رد فعل عملاء يتصلون بخطوط خدمية، فيتعاملون مع تطبيقات صوتية، وحين يجدون صعوبة في تلبية ما يحتاجون، تعلو أصواتهم غضباً، وهذا الارتفاع في الصوت يعجل من وصولهم إلى شخص يتحدثون معه، فيتم حل المشكلة.

وتتعدد الأسباب لتشمل مشكلات نفسية لدى المستخدم، فهناك من يعاني قهراً أو اضطهاداً، فيبحث عمن يقهره أو يضطهده، حتى وإن كان هذا الأحد تطبيقاً رقمياً.

الشاتم والمشتوم

علم النفس يخبرنا أن إطلاق الشتائم والإهانات تكون عادة محاولات للتقليل من مكانة المشتوم، ورفع لمكانة الشاتم، وغالباً تكون الإهانات مدفوعة بغضب ما ناجم عن شعور الشخص بأنه لا يحظى بالمكانة التي يستحقها أو التي يتمناها.

أستاذ علم النفس الحيوي نايجل باربر يحذر في ورقة عنوانها “سيكولوجية الشتائم”، صادرة في 2016، من أن التوجهات النرجسية لدى البعض باتت تظهر جلية عبر “السوشيال ميديا”، وهي المنصات التي تخضع المشاركين بلا هوادة لعمليات تقييم من قبل باقي المستخدمين، ومنهم من يشجع “المؤثرين” مثلاً بطريقة مبالغ فيها حتى يصيبهم بالغرور وتضخم الذات، ولو على حساب آخرين، عبر السخرية منهم أو إهانتهم دفاعاً لـ”المؤثر” أو ترجيحاً لكفته، لكن هذا “المؤثر” قد يتحول إلى مصاب بالنرجسية وتضخم الذات، ويجد نفسه أحياناً يسخر أو يهين أو يشتم آخرين في طريقه إلى مزيد من تمجيد الذات.

تمجيد الذات

ويمكن تطبيق هذه النظرية على من يشتمون أو يهينون التطبيقات الذكية الناطقة، وهي الشتائم التي تساعدهم على تمجيد ذواتهم، لا سيما حين يغيب البشر من حولهم، أو يكثر معارضوهم، أو يرفضون الإهانة.

من جهة أخرى، تتصاعد التحذيرات من الرغبة التي تعتري البعض للإساءة اللفظية إلى التطبيقات الذكية الناطقة، وذلك لأثرها السيئ عليهم وعلى شخصياتهم وتعاملاتهم الاجتماعية والأسرية، وأيضاً على مسيرتهم المهنية.

 

وعلى رغم أن إهانة أو شتم أو توجيه كلمات وعبارات خارجة أو خادشة للتطبيقات الذكية الناطقة أمور لا تضر التطبيق أو المساعد الشخصي الرقمي، وذلك لأن الذكاء الاصطناعي يفتقر المشاعر والقدرات العاطفية، فإن مقالاً منشوراً في “هارفرد بيزنيس رفيو” عنوانه “لماذا ينبغي عليك ألا تشتم ’سيري’؟” حذر من أن السلوك العدواني مع التطبيقات الرقمية الناطقة يؤثر سلباً على تعاملات البشر مع بعضهم البعض، بمن في ذلك بين أفراد أسرهم، ويشير الكاتب مايكل ستشارج إلى أن “أليكسا” و”سيري” ربما لا يتضرران من الإهانة، ولكن الأطفال الذين يسمعون هذه العبارات سيتأثرون بها حتماً. 

تطبيقات غير بيولوجية

أخلاقياً وسلوكياً، يرى ستشارج أن “هذه التطبيقات غير حية بالمعنى البيولوجي، لكن تم تدريبها بصورة مكثفة على توقع احتياجات مكان العمل والاستجابة لها، والإساءة لها لفظياً أو نصياً أثناء العمل أمر غير مهني، وبلا مبرر، ويؤدي حتماً إلى نتائج سيئة مثل أن يتم استدعاء الشخص للتحقيق معه من قبل قسم الموارد البشرية”.

ويضيف، “حين تغضب، فتحطم الهاتف، فأنت الطرف الخاسر، لا الهاتف، من جهة أخرى، تحطيمك للهاتف يعني أنك تفتقر إلى بديهيات الإدارة الجيدة”.

وعلى الصعيد العملي، فإن السلوك الفظ مع التطبيقات الذكية يؤدي إلى “سموم تكنولوجية”، وتكرار سوء المعاملة والوقاحة يمكن أن يسمم سلوك التطبيقات، إذ تبدأ في بناء قدرات رقمية في التعامل مع هذه الإساءات، فترد الإساءة بإساءة، والوقاحة بوقاحة، وذلك لأنها تتعلم بالتكرار، وتكتسب القدرة على معرفة وكيفية “خدمة” المستخدم بالطريقة نفسها التي يستخدمها.

عامل التطبيقات كما تحب أن تعامل

الطريف أن أحد مسؤولي شركة “مايكروسوفت” كرتيس بيفرز قدم نصيحة لمستخدمي الذكاء الاصطناعي قوامها “عامل الآخرين ولو كانوا روبوتات أو تطبيقات ذكية بالطريقة التي تريد أن يعاملوك بها”.

يقول بيفرز، إن التطبيقات لن تشعر بالتقدير والراحلة النفسية حين تقول لها “من فضلك” و”شكراً”، لكن استخدام الآداب الأساسية في التفاعل مع الذكاء الاصطناعي يساعد على توليد مخرجات جيدة ومتماسكة، والعكس صحيح، “الفظاظة والشراسة تعطي صاحبها شعوراً بالفوقية، لكنها تشجع المتلقي أيضاً على أن يعامله بالمثل”.

الطريف أو المزعج، أن تطبيق خدمة عملاء في شركة نقل وتوصيل طلبات دولية يعتمد على الذكاء الاصطناعي، قام باستخدام ألفاظ خارجة، وسخر وتنمر بالعميل، بل وكتب أبياتاً شعرية عن نفسه، وكيف أنه (التطبيق) عديم الفائدة، منتقداً الشركة باعتبارها “أسوأ شركة في العالم”.

كل ذلك حدث بعد ما قام أحد العملاء المنزعجين من تأخر وصول الطرد الخاص به بتوجيه شتائم وألفاظ خارجة إلى التطبيق.

subtitle: 
دراسات تؤكد أن المساعد الشخصي الرقمي يتجاوب مع الاستفسارات المهذبة ويرفض الصوت العالي والأسئلة المبتذلة
publication date: 
الأحد, نوفمبر 24, 2024 – 19:15