ثمن التراجع الأميركي

This post was originally published on الإندبندنت عربية

<p class="rteright">&nbsp;تدريب عسكري في مقاطعة غوانغدونغ، الصين، نوفمبر (تشرين الثاني) 2023 (غيتي)</p>

مع تولي دونالد ترمب ولايته الثانية يكون قد ورث عالماً أكثر عداء لمصلحة الولايات المتحدة مما كان عليه قبل أربعة أعوام، فقد كثفت الصين جهودها لتوسيع نفوذها العسكري والسياسي والاقتصادي في جميع أنحاء العالم، في حين تخوض روسيا حرباً وحشية وغير مبررة في أوكرانيا، ولا تزال إيران ماضية بلا رادع في حملتها لتدمير إسرائيل والهيمنة على الشرق الأوسط وتطوير قدرتها على امتلاك أسلحة نووية، وهذه الدول الثلاث المعادية للولايات المتحدة، إضافة إلى كوريا الشمالية، تعمل اليوم معاً بصورة أوثق من أي وقت مضى لتقويض النظام الذي تقوده واشنطن والداعم للسلام والازدهار الغربيين منذ ما يقارب قرناً من الزمان.

سعت إدارة بايدن إلى إدارة هذه التهديدات من خلال الحوار والاستيعاب، لكن القوى الانتقامية اليوم لا تسعى إلى تكامل أعمق مع النظام الدولي القائم بل إنها ترفضه من الأساس، فهي تستمد قوتها من الضعف الأميركي، ويزداد نهمها للهيمنة كلما حققت مزيداً من المكاسب [كلما تذوقت طعم التوسع].

في الواقع يدرك كثيرون في واشنطن حجم التهديد لكنهم يستخدمونه لتبرير أولويات السياسة الداخلية القائمة التي لا علاقة لها بالمنافسة المنهجية الجارية، إنهم يرددون كلاماً منمقاً ويعترفون شكلياً بحقيقة المنافسة بين القوى العظمى، لكنهم يتنصلون من الاستثمار في القوة الصلبة التي تقوم عليها هذه المنافسة في جوهرها، وقد أصبحت كُلف هذه الافتراضات الخاطئة جلية، بيد أن تصحيح مسار أربعة أعوام من الضعف لا يكون عبر الانعزال عن العالم لأربعة أعوام أخرى.

وعلى رغم أن المنافسة مع الصين وروسيا تشكل تحدياً عالمياً، فمن المؤكد أن ترمب سيجد من ينصحه بإعطاء الأولوية لساحة واحدة، وأن يخفض من شأن المصالح والالتزامات الأميركية في أماكن أخرى، وسيدعو معظم هؤلاء إلى التركيز على آسيا على حساب المصالح في أوروبا أو الشرق الأوسط، وهذا المنطق شائع بين المحافظين الانعزاليين الذين يتشبثون بِوهم “حصن أميركا” [الذي يشير إلى أن الولايات المتحدة قادرة على التحصن داخل أسوارها والانكفاء على ذاتها والتركيز على الأمن الداخلي والقوة العسكرية من دون الدخول بعمق في الشؤون العالمية] والليبراليين التقدميين الذين يخطئون في اعتبار “الدولية” Internationalism [لعب دور ريادي في العالم] غاية في حد ذاتها، فقد تراجع اليمين أمام العدوان الروسي في أوروبا، في حين أظهر اليسار عزوفاً مزمناً عن ردع إيران ودعم إسرائيل، ولم يلتزم أي من المعسكرين بالحفاظ على التفوق العسكري أو صون التحالفات اللازمة لمواجهة القوى الرجعية، وإذا استمرت الولايات المتحدة في التراجع فسيكون أعداؤها مسرورين للغاية بملء الفراغ.

وسيكون من الحكمة أن يبني ترمب سياسته الخارجية على الركيزة الدائمة للزعامة الأميركية، وهي القوة الصلبة، ولإصلاح ما أُهمل في القوة العسكرية يتعين على إدارته أن تلتزم بزيادة كبيرة ومستدامة في الإنفاق الدفاعي، وإجراء استثمارات مهمة لأجيال مقبلة في القاعدة الصناعية الدفاعية، وتنفيذ إصلاحات عاجلة لتسريع تطوير الولايات المتحدة لقدرات جديدة، وتوسيع قدرة الحلفاء والشركاء على الوصول إلى هذه القدرات.

وبينما تتخذ الإدارة الأميركية هذه الخطوات ستتعالى أصوات داخل الحزب الجمهوري تدعو إلى التخلي عن مبدأ الهيمنة [الصدارة] الأميركية ولكن يتعين عليها أن ترفض هذه الدعوات، فالتظاهر بأن الولايات المتحدة قادرة على التركيز على تهديد واحد وحسب في كل مرة، أو أن صدقيتها قابلة للانتقاص، أو أنها قادرة على تجاهل الفوضى البعيدة على اعتبار أنها لا تعنيها، هو تجاهل لمصالحها العالمية ولمخططات خصومها على الساحة الدولية، وفي الواقع لن تستعيد أميركا عظمتها على أيدي أولئك الذين يريدون الاكتفاء ببساطة بإدارة تراجعها.

خيار خاطئ

تشكل الصين أخطر تحد طويل الأجل لمصالح الولايات المتحدة، ولكن على رغم اعتراف الرؤساء المتعاقبين بهذه الحقيقة فإن سياساتهم الفعلية كانت متضاربة، فقد فشلت الإدارات حتى في التوافق على الهدف الأساس من المنافسة مع الصين، فهل هي مجرد سباق لإنتاج مزيد من السلع والأدوات؟ أم أنها فرصة لبيع مزيد من فول الصويا الأميركي وأشباه الموصلات والألواح الشمسية والسيارات الكهربائية؟ أم أنها منافسة على مستقبل النظام الدولي؟ لذا يتعين على إدارة ترمب أن تدرك خطورة هذا الصراع الجيوسياسي وأن تستثمر وفقاً لذلك.

وفي هذا المسعى ينبغي ألا تكرر أخطاء ما يسمى بإستراتيجية “الاستدارة نحو آسيا” التي تبناها الرئيس باراك أوباما، فقد فشلت إدارة أوباما في دعم سياستها باستثمارات كافية في القوة العسكرية الأميركية، وفي خطوة قلبت العلاقة التقليدية بين الإستراتيجية والموازنات أعطت إدارته الأولوية لخفض الإنفاق الدفاعي كغاية بحد ذاتها، متخلية عن النهج الذي استند إليه التخطيط العسكري لعقود والقائم على الاستعداد لخوض حربين في آن واحد، وقد أدى قانون مراقبة الموازنة لعام 2011 الذي حظي بدعم الحزبين إلى تفاقم هذا الخطأ والإضرار بجهوزية الجيش الأميركي.

لقد أدرك الشركاء في آسيا ما تعنيه هذه الاستدارة بالنسبة إليهم وأنهم سيحصلون على حصة أكبر من اهتمامات واشنطن وقدراتها الآخذة في التراجع، ومن جانبهم لم يكن الشركاء في أوروبا سعداء برؤية واشنطن تتجاهل التهديد الروسي، لكن يتعين على الجمهوريين الذين يعتبرون أوكرانيا مصدر إلهاء عن منطقة المحيطين الهندي والهادئ أن يتذكروا ما حدث خلال المرة الأخيرة التي سعى إليها رئيس سابق لإعادة ترتيب الأولويات والتركيز على منطقة ما بالانسحاب من منطقة أخرى، ففي الشرق الأوسط ترك انسحاب أوباما الباكر من العراق فراغاً استغلته إيران وتنظيم الدولة الإسلامية (المعروف أيضا باسم ‘داعش’)، وأسفرت الفوضى التي أعقبت ذلك عن انشغال واشنطن واستنزافها لأعوام، وبحلول عام 2014 مع تعثر أوباما في تنفيذ إستراتيجية “الاستدارة نحو آسيا” وتردده وتخبطه في التعامل مع قضايا الشرق الأوسط، وفشله في فرض “خطه الأحمر” في شأن استخدام سوريا للأسلحة الكيماوية، غزا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شرق أوكرانيا واستولى على شبه جزيرة القرم.

إن الوقوف في وجه الصين يتطلب من ترمب رفض النصيحة القصيرة النظر التي تدعوه إلى إعطاء الأولوية لهذا التحدي من خلال التخلي عن أوكرانيا، فانتصار روسيا لن يلحق الضرر بمصالح الولايات المتحدة في الأمن الأوروبي ويزيد المتطلبات العسكرية الأميركية في أوروبا وحسب، بل سيفاقم أيضاً التهديدات القادمة من الصين وإيران وكوريا الشمالية، والواقع أن التردد في مواجهة عدوان بوتين قد جعل هذه التحديات المترابطة أكثر خطورة بالفعل، وكان فشل إدارة جورج دبليو بوش في الرد بحزم على غزو بوتين لجورجيا عام 2008 بمثابة فرصة ضائعة لوقف العدوان الروسي في مهده [في مراحل باكرة]، أما سياسة “إعادة الضبط” التي انتهجها أوباما مع روسيا فقد جعلت هذا الخطأ أكثر فداحة، مما بدد أي أمل في استجابة غربية منسقة لمواجهة العدوان الروسي.

وفي سعي أوباما إلى متابعة مفاوضات الحد من التسلح تجنب اتخاذ مواقف صارمة مما جعل بوتين أكثر جرأة، وقد استمرت هذه الهشاشة وتجلت بوضوح في رد أوباما المتخاذل على الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2014.

لن تستعيد أميركا عظمتها على أيدي أولئك الذين يريدون الاكتفاء بإدارة تراجعها

 

في المقابل يستحق ترمب الثناء لإلغائه القيود التي فرضتها إدارة أوباما على المساعدات المقدمة لأوكرانيا والسماح بنقل الأسلحة الفتاكة إلى كييف، فخلال إدارة ترمب الأولى استخدمت الولايات المتحدة أخيراً القوة ضد حليفة روسيا، سوريا، لفرض الخط الأحمر المتعلق بالأسلحة الكيماوية وقتلت مئات المرتزقة الروس الذين هددوا القوات الأميركية في سوريا، وزادت من إنتاج الطاقة الأميركية لمواجهة استخدام روسيا لاحتياطاتها الخاصة من النفط والغاز كسلاح أو ورقة ضغط، لكن ترمب قوض هذه السياسات الصارمة في بعض الأحيان من خلال أقواله وأفعاله، فقد تودد إلى بوتين وتعامل مع الحلفاء والتزامات التحالف بطريقة متقلبة وفي بعض الأحيان بعدائية، وفي عام 2019 أوقف 400 مليون دولار من المساعدات الأمنية لأوكرانيا، وقد أثارت هذه المواقف العلنية شكوكاً حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ملتزمة بالتصدي للعدوان الروسي، حتى عندما كانت تقوم بذلك فعلياً.

وعلى رغم خطاب بايدن المتشدد في حملته الانتخابية في شأن روسيا لكن سياسة الانفراج التي اتبعها مع الكرملين تشبه سياسة “إعادة الضبط” التي انتهجها أوباما، فبعد تولي منصبه مباشرة عام 2021، وقّع بايدن على تمديد معاهدة “نيو ستارت” لمدة خمسة أعوام متخلياً عن ورقة ضغط على روسيا كان بإمكانه أن يستخدمها للتفاوض على اتفاق أفضل، ومقيداً أيدي الولايات المتحدة في وقت كانت تتزايد فيه التهديدات النووية من الصين وكوريا الشمالية، وفي يونيو (حزيران) من ذلك العام جمّد أيضاً مساعدات أمنية حيوية لأوكرانيا، وفي أغسطس (آب) أشرف على الانسحاب الأميركي الكارثي من أفغانستان، وهو ما شجع روسيا بلا شك على اختبار حدود العزيمة الأميركية بصورة أكبر.

إن اعتقاد إدارة بايدن الظاهر بأن طموحات بوتين الإمبريالية يمكن احتواؤها من خلال الحد من التسلح وضبط النفس من جانب الولايات المتحدة لم يكن مختلفاً عن التوجه الخاطئ للانعزاليين اليمينيين في السعي إلى استيعاب روسيا، وعندما اتضح أن بوتين سيشن غزواً شاملاً على أوكرانيا، دعوت بايدن إلى تقديم مساعدات عسكرية فتاكة ومؤثرة لأوكرانيا وتوسيع الوجود العسكري الأميركي في أوروبا لكن الرئيس رفض، وحتى بعد الغزو كانت مساعدة إدارة بايدن لأوكرانيا تتسم بالتردد والقيود غير الضرورية والمداولات التي لا تنتهي، وقد أدت هذه التأخيرات مراراً وتكراراً إلى التنازل عن المبادرة لمصلحة موسكو وإضعاف فعالية المساعدات الأميركية، وهو ما أطال أمد الصراع وأضعف موقف كييف التفاوضي، وقد جرى التعتيم على ضعف سياسات إدارة بايدن بسبب الضجة الهائلة التي أُثيرت حول اعتراض بعض الجمهوريين على دعم أوكرانيا.

في الواقع أدت معارضتهم المضللة إلى تأخير إقرار “حزمة الأمن القومي التكميلية”، ولكن عند اللحظة الحاسمة، أيد الجمهوريون في مجلس الشيوخ هذا الإجراء بغالبية ساحقة مثلما فعل كثير من الجمهوريين في مجلس النواب، وأقر الكونغرس الحزمة في أبريل (نيسان) 2024 ولم يتعرض أي مشرع جمهوري صوت لمصلحة أوكرانيا للخسارة خلال الانتخابات التمهيدية [وكل المشرعين الجمهوريين الذين صوتوا لمصلحة أوكرانيا نجحوا في الانتخابات التمهيدية].  

وعلى رغم التحفظات المشروعة على نهج بايدن فإن غالبية زملائي في الحزب الجمهوري أدركوا أن دعم أوكرانيا يشكل استثماراً في الأمن القومي الأميركي، وفهموا أن غالبية الأموال تذهب إلى القاعدة الصناعية الدفاعية الأميركية أو الجيش، وأن هذه المساعدة الأمنية التي لا تشكل سوى جزء بسيط من موازنة الدفاع السنوية، تساعد أوكرانيا في إضعاف القدرات العسكرية لعدو مشترك، لكن الأمر يتطلب مزيداً من العمل، ففي الوقت الحالي فإن لامبالاة بوتين بمعاناة شعبه سمحت له بزيادة قدرة قاعدته الصناعية الدفاعية على ضخ الأسلحة والجنود إلى أوكرانيا، بيد أن قدرته على الاستمرار في ذلك إلى ما لا نهاية تبقى موضع شك، فالنصر الروسي لن يكون حتمياً إلا إذا تخلى الغرب عن أوكرانيا.

فائدة التحالف

سيستمع ترمب إلى دعاة الانعزالية الجدد الذين يقللون من أهمية حلفاء واشنطن في تحقيق الازدهار الأميركي، ويتجاهلون الحاجة إلى الحفاظ على صدقية الولايات المتحدة بين الدول المترددة والواقفة على الحياد في المناطق الحيوية، ويسيئون فهم متطلبات الجيش الأميركي الأساس لردع الصراعات البعيدة أو الانتصار فيها. وتتجاهل حججهم حقيقة أن العدو له رأي أيضاً، وقد يقرر مواجهة الولايات المتحدة على جبهات عدة في الوقت نفسه، مما يجعل الحلفاء أكثر قيمة من أي وقت مضى.

وفي أوروبا سيجد ترمب تقدماً مشجعاً، فبعد الزيادات الكبيرة في موازنات الدفاع، ينفق حلفاء الولايات المتحدة في القارة الآن 18 في المئة أكثر مما أنفقوه قبل عام، وهي زيادة تفوق بكثير تلك التي سجلتها الولايات المتحدة نفسها، كما أن أكثر من ثلثي أعضاء “حلف شمال الأطلسي” يحققون الآن أو يتجاوزون المستوى الذي حدده الحلف والمتمثل في إنفاق ما لا يقل عن اثنين في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، وهذا التقدم لا يخلو من الاستثناءات، وتبقى إحدى أبرز نقاط الضعف التي يعانيها الغرب في مواجهة نفوذ روسيا والصين وإيران هي خضوع المجر المذل لتلك الدول.

ولكن بصرف النظر عن هذا الاستثناء الصاخب فإن الحلفاء الأوروبيين يدركون أن ترمب دعاهم إلى الاستثمار بصورة أكبر في القوة الصلبة وتقاسم الأعباء بجدية أكبر، وعلاوة على ذلك تشتري دول الـ “ناتو” الحليفة الأسلحة الأميركية، ومنذ يناير (كانون الثاني) 2022 طلبت أسلحة أميركية حديثة تزيد قيمتها على 185 مليار دولار، ومع ذلك سيكون ترمب محقاً في تشجيع الحلفاء على بذل مزيد من الجهود، وفي قمة الـ “ناتو” المقبلة ينبغي للحلفاء أن يحددوا هدفاً أعلى للإنفاق الدفاعي يصل إلى ثلاثة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، والالتزام بزيادة موازناتهم الأساس وفقاً لذلك.

والحقيقة الأكثر إزعاجاً بالنسبة إلى أولئك الذين يدعون ترمب إلى التخلي عن أوروبا هي أن الحلفاء الأوروبيين يدركون الروابط المتنامية بين الصين وروسيا، ويعتبرون الصين بصورة متزايدة “خصماً منهجياً”، وخلال زيارة إلى الفيليبين في عام 2023، أشارت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إلى أن “الأمن في أوروبا والأمن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لا ينفصلان”، وحلفاء الولايات المتحدة في آسيا يدركون الأمر ذاته، فعلى حد قول هسياو بي خيم في عام 2023، عندما كانت ممثلة تايوان في واشنطن، “بقاء أوكرانيا يعني بقاء تايوان”.

 

إن عدم رغبة أنصار نهج “آسيا أولاً” في الترحيب بالتقدم الذي أحرزه الحلفاء الأوروبيون أمر غريب، فهم يتجاهلون الحاجة الواضحة إلى التعاون مع الحلفاء لمواجهة التهديدات الصينية للمصالح المشتركة، مما يثير تساؤلات حول ما إذا كانوا مهتمين حقاً بمواجهة الصين أم لا، بل يبدو أن بعضهم قد استغل الحاجة إلى مواجهة الصين كذريعة لتخلي الولايات المتحدة عن القيادة في أي مكان آخر، مما يوحي بأن نهج “آسيا أولاً” قد يكون مجرد ستار للانعزالية.

ويتجاهل هؤلاء النقاد التوافق الإستراتيجي المتزايد بين الصين وروسيا، وكذلك نفوذ روسيا في آسيا (بما في ذلك أسطولها البحري في المحيط الهادئ الذي يزداد قدرة)، والحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن التنافس الأميركي مع كلا القوتين هو تنافس عالمي، ففي الشرق الأوسط، على سبيل المثال، قوضت روسيا المصالح الأميركية لأعوام من خلال تدخلها في سوريا وشراكتها مع إيران، لذا لم يكن مفاجئاً أن يستخدم بوتين طائرات مسيرة هجومية إيرانية في أوكرانيا، ففي الواقع إن فشل الغرب الجماعي في مواجهة إيران في وقت سابق سمح لها بأن تصبح شريكاً أقوى للصين وروسيا، وإضافة إلى احتضان إيران، سعت الدولتان أيضاً إلى تعميق علاقتهما مع الشركاء التقليديين للولايات المتحدة في المنطقة.

لقد سعت الصين لأعوام إلى دق إسفين بين الولايات المتحدة وشركائها، ومن المؤسف أن يسهم مؤيدو نهج “آسيا أولاً” في تحقيق أهداف بكين وخدمة مصالحها بهذا الوضوح، تماماً مثلما فعلت الإدارات الأميركية السابقة التي أدارت ظهرها لحلفائها في الشرق الأوسط مما أتاح للصين فرصة تعزيز نفوذها في هذه المنطقة الحيوية.

فترة تخلي عن القوة الصلبة

تنفق الحكومة الأميركية ما يقارب 900 مليار دولار سنوياً على الدفاع، ولكن بالنظر إلى إجمال الإنفاق الفيدرالي والتحديات التي تواجه الولايات المتحدة والمتطلبات العسكرية العالمية للبلاد والعائد على الاستثمار في القوة الصلبة، فإن هذا المبلغ لا يكفي على الإطلاق، ومن المتوقع أن يشكل الإنفاق الدفاعي 12.8 في المئة من إجمال الإنفاق الفيدرالي عام 2025، وهو أقل من الحصة المخصصة لخدمة الدَين الوطني، وفي كل عام يُخصص جزء متزايد من الموازنة الدفاعية لأمور أخرى غير الأسلحة؛ إذ يُنفق ما يقارب 45 في المئة منها على الرواتب والمساعدات الاجتماعية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الوضع خطر، وفقاً لتقدير صادر عن “معهد المشاريع الأميركية” American Enterprise Institute والذي يأخذ في الاعتبار بصورة صحيحة الوظائف شبه العسكرية لبرنامج الفضاء الصيني وخفر السواحل، فإن الصين تنفق 711 مليار دولار سنوياً على جيشها، وفي مارس (آذار) 2024، أعلن المسؤولون الصينيون عن زيادة بـ 7.2 في المئة في الإنفاق الدفاعي، وعلى النقيض من ذلك طلبت إدارة بايدن عاماً بعد عام خفوضاً في الإنفاق العسكري بالقيمة الحقيقية للدولار [أي بعد احتساب التضخم]، وإذا لم تكن موازنات الدفاع قادرة حتى على مواكبة التضخم فكيف يمكن لواشنطن أن تواكب “التهديد المتزايد” الذي تمثله الصين؟

فضلاً عن ذلك، ونظراً لأن الأهداف الصينية العسكرية المباشرة تتركز على مواجهة الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، فإن بكين، خلافاً للولايات المتحدة، تحتاج في المقام الأول إلى تخصيص الموارد لفنائها الخلفي [أي ضمن منطقتها]، وفي المقابل فإن متطلبات إبراز القوة العالمية تجبر الولايات المتحدة على توزيع إنفاقها الدفاعي على نطاق أوسع بكثير، وعلى رغم أن هناك إجماعاً من الحزبين حول أهمية المصالح الأميركية في آسيا لكن من التهور أن يزور السياسيون الأميركيون تايبيه أو أن يتحدثوا بلهجة قاسية عن الصين إذا كانوا لا يريدون الاستثمار في القدرات العسكرية اللازمة لدعم التزامات واشنطن.

والولايات المتحدة بحاجة إلى جيش قادر على التعامل في آن واحد مع تهديدات متعددة تتزايد تنسيقاً، وإذا لم يكن لديها مثل هذا الجيش فمن المرجح أن يتردد أي رئيس في إنفاق موارده المحدودة على تهديد واحد على حساب تهديدات أخرى، مما يمنح خصومه فرصة المبادرة أو تحقيق النصر، ولذلك يجب على الولايات المتحدة أن تعود لاعتماد موازنات تسترشد بإستراتيجيات مدروسة ونهج تخطيطي للقوة يأخذ في الاعتبار إمكان خوض أكثر من حرب في الوقت نفسه.

يتعين على ترمب أن يرفض النصيحة القصيرة النظر التي تدعو إلى إعطاء الأولوية للصين من خلال التخلي عن أوكرانيا

 

ومع ذلك، وعلى مدى أعوام، أصر معارضو الإنفاق العسكري في الكونغرس بصورة عبثية على ضرورة تحقيق المساواة بين الزيادات في الإنفاق الدفاعي والزيادات في الإنفاق التقديري غير الدفاعي، مما جعل القوة العسكرية رهينة لمشاريع سياسية مفضلة وخاصة، وفي الوقت نفسه ارتفعت الإنفاقات الإلزامية المحلية بصورة كبيرة، كما أن المصروفات الضخمة التي أُنفقت خارج نطاق عملية الاعتمادات السنوية المتفق عليها بين الحزبين، مثل ما يسمى بصورة ساخرة بـ “قانون خفض التضخم”، لم تتضمن ولو فلساً واحداً للقطاع الدفاعي.

ويؤيد الانعزاليون على جانبي الطيف السياسي، عن غير قصد، هذه الخدعة عندما يروجون لخرافة أن التفوق العسكري مكلف للغاية أو أنه استفزازي حتى، وأن على الولايات المتحدة أن تتقبل تراجعها باعتباره أمراً لا مفر منه، أو حتى أن آثار فقدان النفوذ لن تكون سيئة إلى هذا الحد، والواقع أن الدعوات إلى “فك الارتباط” و”القيادة من الخلف” و”إعادة ترتيب الأولويات بصورة صارمة” التي يغذيها النسيان التاريخي، لا تعني سوى الاستسلام للهزيمة، ذلك أن أمن الولايات المتحدة وازدهارها يعتمدان على تفوقها العسكري، والحفاظ على هذا التفوق الحاسم مكلف، بيد أن إهماله يأتي بكُلف أكبر بكثير.

يساعد الاطلاع على مستويات الإنفاق الدفاعي الأميركي السابقة في فهم الحاجات العسكرية الحالية، وخلال الحرب العالمية الثانية بلغ الإنفاق الدفاعي الأميركي 37 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وخلال الحرب الكورية وصل إلى 13.8 في المئة، وفي ذروة حرب فيتنام عام 1968، بلغ 9.1 في المئة، أما التعزيز الدفاعي في عهد الرئيس رونالد ريغان الذي جاء بعد انخفاض إلى 4.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي خلال إدارة كارتر، فقد بلغ ذروته عند نسبة لا تتجاوز ستة في المئة، وفي عام 2023 أنفقت الولايات المتحدة ثلاثة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع.

خلال هذه الفترة من التخلي الأميركي عن القوة الصلبة استثمرت الصين وروسيا في قدرات غير متكافئة [وغير تقليدية] في سبيل معادلة التفوق العسكري الأميركي، واليوم يمكن لذخائرهما في عدد من الفئات أن تتفوق على نظيراتها الأميركية، كما أن إنتاجهما يمكن أن يتجاوز إنتاج الولايات المتحدة، ناهيك عن تفوقهما العددي في المنصات العسكرية الرئيسة من الصواريخ إلى السفن، فالكمية بحد ذاتها تمنح ميزة نوعية، وعلاوة على ذلك قد تستمر حروب المستقبل لفترة أطول وتتطلب ذخائر أكثر بكثير مما افترضه صناع القرار، كما تبين من معدلات استهلاك الذخائر في كل من إسرائيل وأوكرانيا، لكن المخزونات الأميركية غير كافية لتلبية هذا الطلب، فعلى مدى أعوام أهملت الفروع العسكرية الذخائر واستثمرت بدلاً من ذلك في أنظمة الأسلحة والمنصات الجديدة، وليس المقصود التقليل من أهمية تحديث أنظمة الأسلحة الرئيسة بل تسليط الضوء على المفاضلات الضارة التي تفرضها موازنات الدفاع غير الكافية، وإذا وجدت الولايات المتحدة نفسها داخلة في صراع داخل مسرح عمليات بعيد، فستواجه أيضاً صعوبة في إعادة تزويد قواتها بالإمدادات، فالصين، على سبيل المثال، تنوي تعطيل خطوط الإمداد اللوجستية الأميركية، وهذا الواقع إضافة إلى إمكان مواجهة تحديات في مناطق مختلفة من العالم في الوقت نفسه، لا يتطلب بناء مخزونات أكبر من المنصات والذخائر وحسب، بل يتطلب أيضاً ضمان أن تكون هذه القدرات متموضعة مسبقاً في مسارح عدة، وهذا بدوره يستلزم تأمين قواعد عسكرية وتسهيلات وصول وحقوق عبور جوية، مما يشكل حجة إضافية لتعزيز تحالفات الولايات المتحدة عالمياً.

 

بفضل جهود الجمهوريين تضمنت “حزمة الأمن القومي التكميلية” استثمارات ضرورية لتوسيع القدرة الإنتاجية للعناصر الرئيسة، مثل محركات الصواريخ الصلبة [التي تستعمل الوقود الصلب]، اللازمة للذخائر البعيدة المدى والأنظمة الاعتراضية، لكن الجهود التي بذلتها بالتعاون مع نائبة رئيس لجنة المخصصات في مجلس الشيوخ، سوزان كولينز، لتوسيع هذا الاستثمار بما يتجاوز طلب إدارة بايدن، واجهت العقبات نفسها التي تعترض حملتنا السنوية لكسب دعم الحزبين من أجل زيادة الإنفاق الدفاعي بصورة عامة، وخلال السنة المالية 2023 تمكن الجمهوريون في الكونغرس من التغلب على إصرار الديمقراطيين على تحقيق المساواة بين الإنفاق الدفاعي والإنفاق التقديري غير الدفاعي، وكانت هذه خطوة في الاتجاه الصحيح ولكن يجب على الديمقراطيين التخلي نهائياً عن هذا الهوس المضلل، فمتطلبات الأمن القومي الأميركي ليست أوراق مساومة سياسية.

يبدأ التقدم في هذا المجال بزيادة حقيقية في الإنفاق الدفاعي، ففي عام 2018 شددت لجنة إستراتيجية الدفاع الوطني، وهي مجموعة من خبراء الدفاع من الحزبين أنشأها الكونغرس، على أن الحفاظ على التفوق العسكري الأميركي يتطلب نمواً مستداماً وحقيقياً في موازنة الدفاع بنسبة تتراوح ما بين ثلاثة وخمسة في المئة. وبحلول عام 2024، ومع تزايد التهديدات، وصفت اللجنة هذه النسبة بأنها “أقل ما يمكن” وأوصت بموازنات كبيرة بما يكفي “لدعم جهود تعادل الجهد الوطني الأميركي الذي بُذل خلال الحرب الباردة”.

يجب على إدارة ترمب أن تأخذ تحذيرات اللجنة على محمل الجد، ولتمويل زيادة موازنات الدفاع ينبغي أن تخفض بصورة حادة الإنفاق التقديري غير الدفاعي المفرط، [أي إجراء خفوض كبيرة في الإنفاق الحكومي على البرامج التي لا تتعلق بالدفاع ولكنها اختيارية] وأن تعالج مستوى الإنفاق الإلزامي غير المستدام على المستحقات الذي يؤدي إلى تفاقم العجز [معالجة برامج مثل الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية التي تعد التزامات مطلوبة قانوناً]، واستطراداً يجب أن تعمل أيضاً على إصلاح البيئة التنظيمية الاقتصادية المرهقة لمواجهة هذه التحديات من طريق تحقيق نمو أعلى وزيادة الإيرادات.

ترسانة الديمقراطية

في الوقت نفسه يجب على الولايات المتحدة معالجة حال التدهور التي أصابت قاعدتها الصناعية الدفاعية، ويتحمل كل من الـ “بنتاغون” والكونغرس وقطاع الصناعات الدفاعية اللوم عن حالها المتردية، فقد أرسلت وزارة الدفاع والكونغرس رسائل متضاربة إلى قطاع الصناعات الدفاعية في شأن حاجاتهما مما أدى إلى تثبيط عزيمة الشركات عن الاستثمار في توسيع القدرات الإنتاجية وسلاسل التوريد المرنة، ولحل هذه المشكلة يتعين على الإدارات تقديم طلبات موازنة دفاعية كبيرة بما يكفي لتلبية الحاجات العسكرية الحقيقية للولايات المتحدة، ويتعين على الكونغرس أن يقر مشاريع قوانين الاعتمادات في الوقت المحدد، وإذا لم يفعل ذلك فإن “القرارات المستمرة” المترتبة على ذلك، وهي تدابير موقتة للحفاظ على تمويل الحكومة الفيدرالية، تؤدي إلى تأخير العقود ومنع إطلاق برامج جديدة.

لقد منح الكونغرس الـ “بنتاغون” سلطة توقيع عقود شراء تمتد لأعوام عدة مما يقلل حال عدم اليقين التي يسببها أحياناً نظام الاعتمادات المالية السنوي لبعض الذخائر الحيوية، وينبغي توسيع هذا النهج، إضافة إلى التمويل اللازم، ليشمل ذخائر بعيدة المدى وأنظمة اعتراض الدفاع الصاروخي التي تعد الحاجة إليها على المدى الطويل شبه مؤكدة، ولزيادة القدرة الإنتاجية يمكن للـ “بنتاغون” أيضاً الاستفادة من قانون الإنتاج الدفاعي، وهو قانون يعود لعام 1950 يتيح للحكومة توجيه الموارد نحو إنتاج السلع الضرورية للدفاع الوطني، لكن للأسف استخدمت الإدارات الأميركية الأخيرة هذه السلطة لأغراض لا علاقة لها بالأمن القومي، فقد لجأ بايدن، على سبيل المثال، إلى هذا القانون لدعم إنتاج الألواح الشمسية، ولقد آن الأوان لإعادة مفهوم الدفاع إلى قانون الإنتاج الدفاعي.

لكن الصناعة لا يمكنها ببساطة أن تنتظر استثمارات الحكومة، وأنا أتفهم إحباط الشركات بسبب البيروقراطية الفيدرالية البطيئة والكونغرس المتذبذب، ولكن إلى حد معين وحسب، وينبغي أن يكون واضحاً بالنسبة إلى قادة القطاع الخاص أن الحاجة إلى أنظمة اعتراضية للدفاع الجوي والصاروخي والذخائر البعيدة المدى وغيرها من الأسلحة الحيوية تتزايد بصورة مستمرة، ومن غير المرجح أن تتراجع في أي وقت قريب، وبالتالي الطلب أمر لا مفر منه، ويجب على قطاع الصناعة الاستعداد لتلبيته، ويتعين على ترمب أن يوجه رسالة واضحة للـ “بنتاغون” وقطاع الصناعات الدفاعية حول ضرورة التحرك.

كما أعاقت البيروقراطية الابتكار، حتى في الحالات التي يكون فيها مفيداً عسكرياً بصورة جلية، ويجب الإشادة بوزارة الدفاع على مبادرة “ريبليكاتور” Replicator، [اسم يعني حرفياً المحاكي، يشتق من مصطلح ريبلكا Replica الذي يترجم في التقنيات الرقمية بصنع نسخة رقمية عن شيء، أو بالأحرى محاكاة رقمية عنه]، وهو برنامج مصمم لتسريع تبني التقنيات العسكرية الناشئة، بيد أن إنشاء عملية شراء جديدة تماماً يثير تساؤلات حول سبب عدم إصلاح الـ “بنتاغون” نظامها الحالي بدلاً من ذلك، ويجب على الوزارة أن تتوصل إلى طريقة مناسبة لتبني التقنيات الثورية [التجديدية] ودمجها في أقرب وقت ممكن، وإلا فسيجد الجيش نفسه في مواجهة أنظمة ذاتية التشغيل أكثر ذكاء وأقل كلفة وأكثر استقلالية، ينشرها خصوم يتحركون بسرعة أكبر من سرعة البيروقراطية.

فرضت التعريفات الجمركية ضغوطاً على العلاقات مع الحلفاء واختبرت صبر المستهلكين الأميركيين

 

يذكر أن مجرد عملية التعاقد على الأسلحة، من دون التطرق إلى عملية تصنيعها، تتحرك ببطء غير معقول، فبالنسبة إلى أنظمة الأسلحة التي تتجاوز كلفتها 100 مليون دولار، يستغرق الأمر في المتوسط أكثر من 10 أشهر بين إصدار طلب تقديم العروض النهائي [المناقصة النهائية] وترسية العقد، أما مبيعات الأسلحة إلى الدول الأجنبية فتمضي بوتيرة أبطأ، إذ يستغرق شركاء الولايات المتحدة في المتوسط 18 شهراً ليتمكنوا من الحصول على الأسلحة بموجب عقد، وقد بذلت إدارة بايدن محاولة ضعيفة وغير جدية لإصلاح عملية المبيعات العسكرية إلى الدول الأجنبية، بيد أن جعلها أكثر كفاءة يجب أن يكون أولوية مشتركة لوزير الدفاع ووزير الخارجية، ولن تصمد “ترسانة الديمقراطية” إذا كانت أوجه القصور في الولايات المتحدة نفسها، أو معارضة أقليات صاخبة في الكونغرس، تثني الحلفاء الضعفاء عن شراء الأسلحة الأميركية.

ويجب على إدارة ترمب أن تفكر بجدية في تبسيط عملية الإنتاج بصورة جذرية بالنسبة إلى الذخائر الشائعة الاستخدام، أو في بناء مخزونات احتياطية مسبقة لأغراض التصدير، وكذلك يجب أن يفكر الجيش في الحفاظ على مخزونات أكبر من الأسلحة التي يمكن مشاركتها بسهولة مع الحلفاء والشركاء في أوقات الأزمات، فبمجرد اندلاع القتال يكون الأوان قد فات على توسيع القدرة الإنتاجية.

ولبناء تحالف من القوات المتقدمة التي يمكنها العمل معاً بسلاسة، يجب أن تكون الولايات المتحدة مستعدة أيضاً لمشاركة مزيد من التكنولوجيا، ويمكن أن يكون اتفاق “أوكوس”، الشراكة الأمنية الأميركية مع أستراليا والمملكة المتحدة، نموذجاً لتوسيع مشاركة التكنولوجيا مع الحلفاء والشركاء الموثوقين، فتبادل التكنولوجيا الدفاعية ليس عملاً خيرياً بل أصبح على نحو متزايد طريقاً ذا اتجاهين، إذ تقدم دول مثل أستراليا وفنلندا وإسرائيل واليابان والنرويج وكوريا الجنوبية والسويد قدرات متطورة، لذا ينبغي على الولايات المتحدة توسيع الإنتاج المشترك مع حلفائها وتشجيعهم على إنتاج قدرات تعمل بسلاسة مع أنظمة أخرى [قدرات قابلة للتشغيل المشترك بين الأنظمة العسكرية المختلفة]، مما سيقلل الكُلف ويعزز المخزون ويحسن مرونة سلاسل التوريد ويعزز القدرة الجماعية على التنافس مع الصين.

العامل الاقتصادي

سيكون من الحماقة أن تنافس الولايات المتحدة الصين بمفردها، فحلفاء واشنطن وشركاؤها يمثلون جزءاً كبيراً من الاقتصاد العالمي، وسيكون من غير الممكن من الناحية المالية أن تعيد واشنطن إنشاء جميع سلاسل التوريد الخاصة بهم داخل البلاد.

يستحق أوباما الثناء على التفاوض على الشراكة عبر المحيط الهادئ مع حلفاء الولايات المتحدة في آسيا، ولا أندم على العمل معه لتجاوز اعتراضات الديمقراطيين ذوي النزعة الحمائية في الكونغرس، فإضافة إلى خفض الحواجز التجارية وتوسيع فرص وصول الشركات الأميركية إلى الأسواق، كان الهدف من الاتفاق هو وضع قواعد مواتية للتجارة الدولية في منطقة حيوية من العالم، وكانت الدول الأطراف في الاتفاق المقترح تمثل 40 في المئة من الاقتصاد العالمي، لكن بدلاً من تعزيز قوة الاقتصادات الغربية والاستفادة منها عمدت إدارة ترمب الأولى ثم إدارة بايدن، في بعض الأحيان، إلى استعداء تلك الاقتصادات من خلال فرض رسوم جمركية أضعفت العلاقات مع الحلفاء واختبرت صبر المستهلكين الأميركيين، وكان هذا التنازل بمثابة دعوة إلى الصين لتوسيع نفوذها الاقتصادي في آسيا على حساب الولايات المتحدة.

وهناك كثير من الأدلة التي تثبت أن التفاؤل العالمي خلال تسعينيات القرن الماضي لم يكن في محله، فالترحيب بالصين وروسيا في منظمة التجارة العالمية لم يؤد إلى تحويل حكومتيهما أو اقتصاديهما، في الأقل ليس بطرق تفيد العالم الحر، بل على النقيض من ذلك استغلت كلتا الدولتين هذه المنظمة وغيرها من المؤسسات الاقتصادية الدولية وأسهمتا في إضعافها، وأنا لست ساذجاً في شأن سلبيات التجارة الدولية، لكن لا شك في أن السوق الحرة والتجارة الحرة كانتا مسؤولتين عن جزء كبير من ازدهار الولايات المتحدة، ولهذا السبب يتعين على واشنطن والاقتصادات الحرة ذات التوجهات المماثلة أن تعمل معاً لإصلاح النظام التجاري الدولي في سبيل حماية المصالح الأميركية من الممارسات التجارية غير العادلة، وليس التخلي عن هذا النظام بالكامل، فمن دون قيادة أميركية في هذا المجال فلا شك في أن بكين ستكون قادرة على إعادة صياغة قواعد التجارة وفقاً لشروطها الخاصة.

وعلى رغم أن التراجع في التفوق العسكري هو العقبة الأكثر وضوحاً أمام الأمن القومي لكن لا يمكن للولايات المتحدة أن تهمل دور المساعدات الخارجية أيضاً، وبصفتي الرئيس السابق للجنة الفرعية لاعتمادات العمليات الخارجية في مجلس الشيوخ، فإنني أتعامل بجدية مع التحذير الذي أطلقه جيمس ماتيس حينما كان رئيساً للقيادة المركزية الأميركية، بأنه في حال تقصير الكونغرس في تمويل الدبلوماسية والمساعدات الخارجية فسيتعين عليه “أن يشتري مزيداً من الذخيرة”، وللأسف أصبحت هذه الأدوات المهمة للقوة الأميركية منفصلة بصورة متزايد عن المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة، ولقد آن الأوان لدمج المساعدات الخارجية بصورة أكثر وضوحاً في المنافسة بين القوى العظمى، على سبيل المثال، من خلال العمل مع الحلفاء لتقديم بدائل موثوقة لـ “مبادرة الحزام والطريق الصينية.

لا وقت للانطواء على الذات

في يناير 1934، ألقى السيناتور الجمهوري عن ولاية أيداهو، ويليام بوراه، وهو أحد أبرز دعاة الانعزالية، كلمة في اجتماع لـ “مجلس العلاقات الخارجية” في نيويورك، وبما أن السلام قد ساد لـ 15 عاماً بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، زعم بوراه أن الإنفاق العسكري العالمي كان مفرطاً، وأصر على أن التوترات بين القوى الأوروبية لا يمكن أن تحلها أطراف خارجية، قائلاً “سيستغرق الأمر وقتاً طويلاً، على ما أعتقد، قبل أن تكون هناك أية ضرورة أو أي مبرر لدخول الولايات المتحدة في حرب خارجية.”

وبطبيعة الحال، بحلول أواخر الثلاثينيات، أدى الغزو النازي لأوروبا إلى تحول كبير في الرأي العام الأميركي بعيداً من أوهام الانعزالية التي تبناها بوراه، وبحلول مايو (أيار) 1940، عندما غزت القوات الألمانية فرنسا، أيد 94 في المئة من الأميركيين أية استثمارات ضرورية في الدفاع الوطني، وبحلول يونيو أيد أكثر من 70 في المئة التجنيد الإجباري.

استوعبت الولايات المتحدة واقع الأمور خلال الحرب العالمية الثانية، ولكن هل يجب أن يحدث غزو آخر لحليف وثيق قبل أن تلتفت البلاد متأخرة إلى متطلبات الدفاع الوطني؟ فالانعزال ليس إستراتيجية أفضل حالياً مما كان عليه عشية الحرب العالمية الثانية، واليوم وفي ظل تهديدات متشابكة تفوق في خطورتها قوى المحور آنذاك، فإن الفشل في الحفاظ على الهيمنة الأميركية سيكون أكثر عبثية وكارثية مما كان عليه رفض تحمل هذه المسؤولية قبل 85 عاماً، وفي ذلك الوقت جعل التخلي الساذج عن متطلبات الدفاع الوطني إحياء “ترسانة الديمقراطية” خلال جدول زمني قصير أمراً بالغ الصعوبة، وكما لاحظ الأدميرال هارولد ستارك، رئيس العمليات البحرية آنذاك، عام 1940 “لا يمكن للدولارات أن تشتري الأمس”.

تحتاج الولايات المتحدة بصورة عاجل إلى تحقيق توافق حزبي حول أهمية القوة الصلبة في سياستها الخارجية، ولا بد من أن يسمو هذا الإدراك على أوهام اليسار في شأن الدولية الجوفاء ونزعات اليمين نحو العزلة والانحدار، فلقد حان وقت استعادة القوة الصلبة الأميركية الآن.

 

 مترجم عن “فورين أفيرز” يناير (كانون الثاني) / فبراير (شباط) 2025 نشر في تاريخ 16 ديسمبر (كانون الأول)، 2024

 ميتش ماكونيل هو سيناتور عن ولاية كنتاكي الأميركية وشغل منصب زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ الأميركي بين عامي 2007 و 2024.

subtitle: 
لماذا يجب على واشنطن أن ترفض الانعزالية وتتمسك بدورها القيادي؟
publication date: 
الخميس, فبراير 27, 2025 – 19:45