This post was originally published on الإندبندنت عربية

<p>تعزز بريطانيا حضورها في قوات حفظ السلام في أفريقيا بهدف ترسيخ الاستقرار هناك (أ ف ب)</p>
وجهت بريطانيا بوصلتها نحو أفريقيا، القارة الغنية بثرواتها لكن المضطربة أمنياً وسياسياً واجتماعياً، حيث تسعى لندن إلى تكريس التعاون الأمني كبوابة رئيسة لترسيخ نفوذها في القارة السمراء، أو ما يُطلق عليه البعض “العودة البريطانية الثانية” إلى أفريقيا.
وتركز الجهود البريطانية بالأساس على ثلاثة عناصر في هذا الشأن، أولها التدريب العسكري والأمني حيث تعرض على الأفارقة تدريب قواتها التي تعاني الكثير من الصعوبات، وثانيها، تأمين الملاحة البحرية بما يضمن تدفقاً آمناً للسلع عليها وعلى أوروبا، وأخيراً، تعزيز الاستقرار من خلال مشاركة كثيفة في بعثات حفظ السلام وغيرها.
وتأتي هذه العودة البريطانية إلى أفريقيا، بعد سنوات من مغادرة لندن للاتحاد الأوروبي (بريكست)، التي مهّدت الطريق أمام مراجعة شاملة للسياسة الخارجية البريطانية، التي كانت تستعمر دولاً أفريقية عدة في السابق.
خلفيات تاريخية وأمنية
التحرك البريطاني صوب أفريقيا يأتي في خضم تنافس محموم على النفوذ في القارة السمراء وهو تنافس بدا وكأنه ينحسر بين روسيا وبقية القوى الغربية، التي فقدت الكثير من مواقعها في الأعوام الأخيرة، وسط تساؤلات حول قدرة العواصم الغربية على التصدي لموسكو.
وتدعم بريطانيا على سبيل المثال الجيش الصومالي من أجل تدريب قوات النخبة فيه، وقد دفعت نحو 4.7 مليون دولار في سبيل تعزيز قدراته خصوصاً وأنه يواجه “حركة الشباب” المتطرفة التي تُحقق مكاسب ميدانية بصورة مستمرة.
وفي نيجيريا وكينيا، تعمل القوات البريطانية على تدريب آلاف الجنود من أجل النهوض بقدراتها على التصدي للجماعات الإرهابية وحركات التمرد التي تسجل تنامياً ملحوظاً هناك.
ويأتي ذلك في سياق تتزايد فيه عمليات الخطف التي تستهدف الرعايا الأجانب ومنهم البريطانيون في هذه الدول التي تعرف اضطرابات تكاد تكون مزمنة وهو ما دفع على الأرجح لندن للتوجّه إليها والاستثمار بصورة خاصة في مجال الأمن.
ويعتقد الباحث السياسي المقيم في لندن، غسان إبراهيم، أن “الدور الأمني البريطاني في أفريقيا يأتي من خلفيات تاريخية حيث بين الطرفين علاقات وطيدة، ولندن في هذا الإطار تتفوق على الصين وروسيا خصوصاً على مستوى التنسيق بينها وبين بقية العواصم الأفريقية”.
وتابع إبراهيم في حديث خاص إلى “اندبندنت عربية” أن “البريطانيين يتفوقون لأنهم يتعاملون بهدوء مع الدور الأمني الذي يضطلعون به في أفريقيا، فهم لا يقومون بأي ضجيج ولا بإنشاء معسكرات ضخمة أو قواعد عسكرية، أو تأسيس ميليشيات محلية وهم عادة يتعاملون مع الحكومات بصورة مباشرة ولديهم خبرة في هذه العلاقات وقدرة على عدم إزعاج المكونات المحلية نظراً إلى أن لديهم علاقات تاريخية معها”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إمكانات محدودة
على صعيد آخر، وجدت بريطانيا نفسها في الأعوام الأخيرة مضطرة إلى انخراط أوسع في مناطق مثل خليج غينيا الذي يمر عبره ما قيمته نحو 6 مليارات دولار من التجارة البريطانية سنوياً شأنه في ذلك شأن البحر الأحمر حيث أدركت الحكومة البريطانية أهمية تأمين الملاحة البحرية هناك لا سيما مع تزايد القرصنة هناك.
كما يضم خليج غينيا احتياطات هائلة من الغاز والنفط تعمل شركات بريطانية مثل “بي بي” على استغلالها، ما يحتم على لندن توفير غطاء أمني لها، وجدته في تعزيز قدرات الجيوش المحلية وليس الدفع بقوات ضخمة مثلما هي حال روسيا التي تنخرط مباشرة وبصورة متزايدة في دول مثل الساحل الأفريقي.
وشدد إبراهيم على أن “إمكانات القارة الأفريقية محدودة على المستوى الأمني على رغم الثروات التي تختزنها، لذا فإن فكرة إرسال جيوش وتأسيس قواعد تأثيرها ضعيف جداً لذلك لجأت بريطانيا إلى التنسيق الأمني والتعامل بهدوء مع الوضع في أفريقيا من دون الدخول من بوابة المشكلات بل عبر التركيز على التنسيق والعلاقات الوثيقة وخصوصاً تعزيز البعد الأمني”.
وتراهن بريطانيا أيضاً على الاتفاقات الثنائية مع الدول الأفريقية، حيث أبرمت عام 2021 اتفاقاً للتعاون الدفاعي مع كينيا بهدف تعزيز التعاون الأمني والاستخباراتي معها، ولم تكتف بذلك وحسب في علاقتها مع كينيا، إذ أسهمت في تطوير وحدة “كوماندوز” بحرية كينية، وتعهدت مواصلة العمل من أجل تأمين سواحلها، كما أبرمت بريطانيا أيضاً مذكرة تفاهم أمنية مع نيجيريا عام 2018 بهدف مواجهة جماعة “بوكو حرام” المتشددة وتنظيم “داعش – ولاية غرب أفريقيا”.
قصور محتمل
ولا تحصر بريطانيا تدخّلاتها الأمنية في هذين المجالين أي الملاحة البحرية والتدريب العسكري، إذ لا تترد في المشاركة في بعثات حفظ السلام الأممية وغير ذلك، ضمن مساعي تحقيق الاستقرار الذي تنشده القارة السمراء منذ عقود.
ودفعت بريطانيا بقواتها إلى جنوب السودان ومالي وغيرهما في إطار بعثات لحفظ السلام مما يعكس سعيها إلى استخدام هذه القوة الناعمة للتأكيد على انخراطها في جهود ترسيخ السلم والاستقرار الدوليين.
بالأرقام، أرسلت بريطانيا 250 جندياً إلى مالي للمشاركة في بعثة الأمم المتحدة للسلام هناك، و300 آخرين إلى جنوب السودان وعشرات الجنود إلى الصومال ودول أخرى.
وقال الباحث السياسي المتخصص في الشؤون الدولية، نزار مقني، إن “بريطانيا تحاول بالفعل استخدام التعاون الأمني لزيادة نفوذها في أفريقيا خصوصاً في المناطق الناطقة باللغة الإنجليزية التي كانت ضمن مستعمراتها في القرن الماضي”.
واستدرك مقني قائلاً “لكنها قد لا تستطيع مد نفوذها بسهولة بسبب التنافس الشرس مع قوى أخرى مثل روسيا والصين وكذلك الولايات المتحدة التي دخلت على خط فض النزاع بين رواندا والكونغو الديمقراطية، ولكنها تستطيع أن تحقق بعض النفوذ من خلال القوة الناعمة”.
وأكد أنه “حتى لو أرادت مد نفوذها فذلك لن يكون إلا من خلال تحالف وهذا ممكن بطبيعة الحال في ظل التعاون الحالي مع الولايات المتحدة وليس أوروبا”. ولفت مقني إلى أن “ما تقوم به لندن الآن هو بمثابة إعادة تموقع بريطاني جديد في أفريقيا وسببه كما أشرت حدود القوة البريطانية وقصورها أمام قوى أخرى مثل الصين وأميركا بالأساس وفي مرتبة ثانية روسيا”.