This post was originally published on الإندبندنت عربية
<p class="rteright">أوجه التشابه بين ترمب وريغان وعصريهما كثيرة ومهمة (رويترز)</p>
تعمدت حملة دونالد ترمب الرئاسية لعام 2024 بصورة واضحة أن تحاكي الحملة التي قادها رونالد ريغان عام 1980. “السلام من خلال القوة” و “هل أنت في وضع أفضل مما كنت عليه قبل أربع سنوات؟”، هما أبرز شعارين أطلقهما ريغان ولا يزال الناس يتذكرهما إلى حد الآن. أما الشعار الأقل شهرة، فهو “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى” الذي استخدمه ريغان عام 1980، بما في ذلك في خطاب قبول الترشح الذي ألقاه في المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري.
ولكن قلة من المعلقين أولوا اهتماماً لهذه التشابهات، ويرجع هذا في جزء منه إلى أن شخصيتَي الرئيسين مختلفتان إلى حد كبير، وفي جزء آخر إلى أن الإشادة بريغان أصبحت منذ فترة طويلة مجرد شكلية فارغة [لفتة روتينية بدافع الاستعراض بدلاً من أن تكون نابعة من قناعة حقيقية] بالنسبة إلى المرشحين الجمهوريين. لكن التشابه بينهما يحمل دلالة مهمة، وينبغي على ترمب أن يستخدم ذلك لمصلحته السياسية والاستراتيجية، متذكراً (في حين نسي الآخرون) ما الذي عناه شعار “السلام من خلال القوة” تحديداً في ثمانينيات القرن الـ20. وعلى رغم أنه أصبح من المألوف والشائع أن ينسب الفضل في إنهاء الحرب الباردة إلى الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، فإن الحقيقة هي أن إدارة ريغان هي التي أجبرت موسكو على السير في طريق الإصلاح، مما أدى في نهاية المطاف إلى نزع السلاح بصورة كبيرة وانهيار الإمبراطورية السوفياتية في أوروبا الشرقية.
لقد افتتح ريغان عهده بحزم وقوة. فأعاد التأكيد بجرأة على الرفض الأميركي للشيوعية كأيديولوجيا وللتوسع السوفياتي كاستراتيجية. وفي الوقت نفسه، شرع في زيادة الإنفاق الدفاعي بصورة كبيرة سعياً إلى استغلال التفوق التكنولوجي الأميركي. ولكن عندما حان الوقت المناسب، انتقل إلى سلسلة من اجتماعات القمة مع غورباتشوف أسفرت في نهاية المطاف عن إنجازات مذهلة في مجالي نزع السلاح وتعزيز الأمن الأوروبي.
ويوضح ترمب في كتابه “فن الصفقة” أنه يعيش من أجل التفاوض [عقد الصفقات هو الشغف الذي يعيش من أجله]. وكتب عن أحد إنجازاته العقارية: “هناك أوقات يجب أن تكون فيها عدوانياً، ولكن هناك أيضاً أوقاتاً تكون فيها أفضل استراتيجية تعتمدها هي الهدوء”. في الواقع، يؤمن ترمب بصورة راسخة بأنه في أي مفاوضات مع خصم قوي، يجب على المرء أن يبدأ بعدوانية، ولكن عليه أن يبحث بعد ذلك عن اللحظة الحاسمة للتوصل إلى اتفاق. اليوم، تجد الولايات المتحدة نفسها في العام السادس في الأقل من حرب باردة ثانية، هذه المرة مع الصين، وهي مواجهة ازدادت خطورة في ظل إدارة بايدن. في ولايته الأولى، أدرك ترمب الحاجة الأميركية إلى احتواء صعود الصين وأقنع النخب السياسية في واشنطن، على رغم تشككهم الأولي، بأن هذا يتطلب خوض حرب تجارية وأخرى تكنولوجية. في ولايته الثانية، يتعين عليه مرة أخرى أن يبدأ بتكثيف الضغوط عبر استعراض جديد للقوة الأميركية. لكن هذا ينبغي ألا يكون غاية بحد ذاتها، بل يجب أن يكون هدفه النهائي مشابهاً لهدف ريغان: التوصل إلى اتفاق مع الخصم الرئيس لواشنطن يقلل من الخطر المروع لنشوب حرب عالمية ثالثة، وهو خطر كامن في الحرب الباردة بين قوتين عظميين نوويتين.
الاختلاف نفسه
بالطبع، هناك اختلافات كبيرة بين ترمب وريغان. فترمب من ذوي النزعة الحمائية الاقتصادية [حماية الاقتصاد المحلي من المنافسة الخارجية]، بينما كان ريغان يؤمن بالتجارة الحرة. ترمب معادٍ للهجرة غير الشرعية بقدر ما كان ريغان متساهلاً معها. ترمب متعاطف مع الحكام الأقوياء الاستبداديين بينما كان ريغان حريصاً على تعزيز الديمقراطية. شخصية ترمب العامة فظة وانتقامية بقدر ما كانت شخصية ريغان ودودة ومتسامحة.
من المهم أيضاً الإشارة إلى أن السياق الاقتصادي عند انتخاب ريغان كان مختلفاً تماماً عن اليوم: لقد كان أسوأ بكثير. فقد بلغ التضخم، وفقاً لمؤشر أسعار المستهلك، 12.6 في المئة في نوفمبر (تشرين الثاني) 1980. وكان معدل البطالة 7.5 في المئة ويزداد، ليصل إلى ذروته عند 10.8 في المئة في ديسمبر (كانون الأول) 1982. وكانت أسعار الفائدة مرتفعة للغاية: بلغ معدل سعر الفائدة الفعلية على الأموال الفيدرالية 15.85 في المئة. وكان الاقتصاد خرج من الركود في أغسطس (آب) 1980، لكنه عاد للركود بعد عام. وعلى النقيض من ذلك، في وقت انتخابات عام 2024، بلغ معدل التضخم 2.6 في المئة والبطالة 4.1 في المئة ومعدل سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية 4.83 في المئة.
ومع ذلك فإن أوجه التشابه بين ترمب وريغان، وعصريهما، عدة ومهمة. فمن السهل أن ننسى، على سبيل المثال، مدى الخوف الذي سببه ريغان في ذلك الوقت لليبراليين في الداخل والخارج، وكذلك لخصوم واشنطن. وكما يوضح ماكس بوت في السيرة الذاتية الجديدة المنقحة التي كتبها عن ريغان، كان يُنظَر إليه وقت فوزه الأول في الانتخابات على أنه “مغفل لطيف”، على حد تعبير كلارك كليفورد، أحد الشخصيات البارزة في الحزب الديمقراطي. وكتب الصحافي الليبرالي نيكولاس فون هوفمان في مجلة “هاربرز” أنه “من المهين التفكير في أن هذا القروي البسيط غير المتعلم والواثق بنفسه هو رئيسنا”. وكان من المعتاد أن يصوره رسامو الكاريكاتير كرجل مجنون يمتطي قنبلة نووية أثناء سقوطها، مثل شخصية كينغ كونغ في فيلم “دكتور ستراينجلوف” (Dr. Strangelove). واليوم، يصوّر ترمب بالطريقة نفسها. لقد تعرض ريغان للسخرية والاستخفاف والازدراء أكثر من أي سياسي بارز آخر في عصره، وكذلك الحال مع ترمب اليوم.
لنأخذ في الاعتبار هنا أيضاً قوة موقعهما السياسي. فمن ناحية، فاز ريغان عام 1980 بفارق أكبر بكثير مما فاز به ترمب عام 2024. بالاسترجاع، حصل ريغان على دعم 44 ولاية، وانتُخب رئيساً بـ489 صوتاً في المجمع الانتخابي، وبهامش تصويت شعبي بلغ 9.7 في المئة. أما فوز ترمب، فلم يكُن كاسحاً: فحصل على دعم 31 ولاية فقط، ونال 312 صوتاً في المجمع الانتخابي، بهامش تصويت شعبي بلغ نحو 1.6 في المئة. لكن من ناحية أخرى، سيسطر الحزب الجمهوري، في عهد ترمب، على مجلسي الكونغرس [مجلس النواب ومجلس الشيوخ]، في حين لم يسيطر ريغان خلال إدارته إلا على مجلس الشيوخ. وعلاوة على ذلك، حوّل ترمب المحكمة العليا بصورة حاسمة نحو اليمين من خلال التعيينات الثلاثة التي أجراها خلال فترة ولايته الأولى، في حين كانت المحكمة خلال فترة ولاية ريغان أكثر ليبرالية بصورة واضحة.
إن أوجه التشابه بين ترمب وريغان عدة ومهمة
ومثل ريغان الذي نجا من محاولة اغتيال على يد جون هينكلي جونيور بعد شهرين فقط من تنصيبه، نجا ترمب أيضاً من محاولة اغتيال كادت أن تودي بحياته. وفي كلتا الحالتين، رافق النجاة من الموت شعور بحماية إلهية، على رغم أن أياً منهما لم يكُن متديناً بصورة خاصة. وعلى غرار ريغان، تعهد ترمب أيضاً بتقليص حجم الحكومة الفيدرالية. وكلا الرجلين كانا ملتزمين إصلاحات قائمة على العرض (بخاصة في مجال إلغاء القيود التنظيمية)، إضافة إلى خفض الإنفاق. وكما كانت الحال مع ريغان، فإن إحدى أولويات ترمب في عامه الأول ستكون تمديد التخفيضات الضريبية التي أقرها في ولايته الأولى. ومثل ريغان أيضاً، من المستبعد إلى حد كبير أن يتمكن ترمب من تحقيق التوازن في الموازنة.
وصحيح أن بعض مرشحي ترمب أكثر غرابة من أي شخص فكر ريغان في تعيينه في منصب وزاري: لنأخذ على سبيل المثال كاش باتيل، مسؤول متوسط المستوى خلال فترة ترمب الأولى، رشحه ترمب لتولي قيادة “مكتب التحقيقات الفيدرالي” وتعهد بتطهير “الدولة العميقة” من أعداء ترمب ومنتقديه. أو لنأخذ تولسي غابارد، الديمقراطية السابقة ذات الآراء الغريبة وغير التقليدية التي اختارها ترمب لمنصب مديرة جهاز الاستخبارات الوطنية على رغم افتقارها إلى الخبرة وآرائها المحيرة المتعاطفة مع نظام فلاديمير بوتين في روسيا ونظام بشار الأسد في سوريا. كثيرون يتذكرون بحنين النجوم البارزين في الأعوام الأولى من عهد ريغان: جيمس بيكر الذي كان كبير الموظفين، وكاسبار واينبرغر وزير الدفاع، والموهوب ديفيد ستوكمان مدير مكتب الإدارة والموازنة. ولكن قلة من الناس يتذكرون جيمس إدواردز الذي شغل منصب حاكم ولاية كارولاينا الجنوبية، لكن تدريبه كجراح فم وأسنان لم يؤهله لتولي منصب وزير الطاقة، وهو المنصب الذي رشحه له ريغان عام 1980.
وماذا عن ولع ترمب “اللاريغاني” [الذي يتعارض بشدة مع نهج ريغان] بفرض الرسوم الجمركية؟. في الحملة الانتخابية، تحدث ترمب عن “تعريفة عالمية” تصل إلى 20 في المئة على جميع السلع المستوردة إلى الولايات المتحدة، و60 في المئة على جميع الواردات الآتية من الصين. وحذر 23 من خبراء الاقتصاد الحائزين جائزة “نوبل” من أن سياسات ترمب الاقتصادية، “بما في ذلك التعريفات الجمركية المرتفعة حتى على السلع الآتية من أصدقائنا وحلفائنا والتخفيضات الضريبية التنازلية للشركات والأفراد [وهي تخفيضات في معدلات الضرائب تفيد بصورة غير متناسبة الأفراد الأثرياء والشركات الكبرى في حين تقدم فوائد محدودة أو معدومة للمجموعات ذات الدخل المنخفض]، ستؤدي إلى ارتفاع الأسعار وزيادة العجز واتساع فجوة عدم المساواة”. لكن من المرجح أن يحقق ترمب خفضاً في التضخم، مثلما فعل ريغان، وذلك جزئياً من خلال خفض أسعار النفط وسوق العمل التي بدأت بالفعل تهدأ [يتباطأ فيها الطلب المفرط على العمالة]. وعلى رغم أن ريغان كان بالتأكيد مؤيداً للتجارة الحرة، فسيكون من الخطأ تصويره على أنه متشدد في هذا الصدد. فهو لم يكُن يتردد في ممارسة الضغط على اليابان لفرض حصص “طوعية” على صادراتها من السيارات [تحديد الدولة المصدرة كمية صادراتها بصورة “طوعية” لتجنب قيود أكثر صرامة أو تعريفات جمركية قد تفرضها الدولة المستوردة] التي كانت آنذاك تقوض أسعار السيارات المصنعة في ديترويت.
علاوة على ذلك، فإن الاقتصاديين قلقون من أن ترمب قد يقوض استقلالية الاحتياط الفيدرالي. ولكنهم قد لا يعلمون أن ريغان، في أول اجتماع له مع بول فولكر رئيس الاحتياط الفيدرالي، وفقاً للسيرة التي كتبها بوت، فاجأ فولكر قائلاً: “لقد تلقيت رسائل عدة من أشخاص يتساءلون عن سبب حاجتنا إلى الاحتياط الفيدرالي على الإطلاق. يبدو أن الناس يعتقدون بأن الاحتياط الفيدرالي هو الذي يتسبب في معظم مشكلاتنا النقدية وأننا سنكون أفضل حالاً إذا ألغيناه. لماذا نحتاج إلى الاحتياط الفيدرالي؟”. في البداية، صُدم فولكر، لكنه استعاد رباطة جأشه وشرح له أن الاحتياط الفيدرالي كان “مهماً جداً لاستقرار الاقتصاد”. وعلى رغم أن ترمب لا يحب جيروم باول، رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي الحالي، فإنه، على غرار مرشحه لمنصب وزير الخزانة، سكوت بيسنت، وهو من المخضرمين في وول ستريت، يدرك أهمية ثقة السوق باستقلالية السياسة النقدية.
الصقور والحمائم
يميل المؤرخون إلى تقييم الرؤساء المعاصرين بناءً على نجاحاتهم وإخفاقاتهم في السياسة الخارجية أكثر من إنجازاتهم على الصعيد المحلي. وعلى غرار ريغان، سيرث ترمب من سلفه أزمات عدة في السياسة الخارجية. فعام 1980، كانت إيران والعراق في حال حرب وكان السوفيات غزوا أفغانستان. أما اليوم، فإيران في حال حرب مع إسرائيل بدلاً من العراق، في حين أن أوكرانيا، وليس أفغانستان، هي الواقعة تحت مرمى نيران الكرملين. في ذلك الوقت، كانت نيكاراغوا وقعت للتو تحت ثورة “الساندينيستا” الشيوعية [جبهة التحرير الوطنية الساندينية. واستُلهمت الحركة من الزعيم النيكاراغوي أوغستو سيزار ساندينو]. واليوم، أصبحت فنزويلا دولة فاشلة بعد 25 عاماً من حكم أنصار تشافيز. بصورة عامة، يبدو العالم أكثر خطورة من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب الباردة. وحلت الصين محل الاتحاد السوفياتي كمنافس رئيس للولايات المتحدة، وهي تُعتبر قوة عظمى أضخم اقتصادياً وتكنولوجياً مما كان عليه السوفيات يوماً. والآن تتعاون الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية علناً على المستويين الاقتصادي والعسكري. وليس من المبالغة وصف تلك الدول بأنها تشكل محوراً شبيهاً بذلك الذي واجهته واشنطن وحلفاؤها خلال الحرب العالمية الثانية.
وقد يكون لترمب نصيب من حظ ريغان في بداياته. ففي غضون دقائق من خطاب تنصيب ريغان الأول، أفرجت إيران عن 53 رهينة أميركية كانت تحتجزهم في طهران. وقد يتلقى ترمب أخباراً جيدة حتى قبل ذلك، اعتماداً على الخطوات التي يقرر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اتخاذها ضد المنشآت النووية الإيرانية. وبالمقارنة مع العام الماضي، تحسنت الوضعية الاستراتيجية لإسرائيل بصورة كبيرة. فقد تكبد وكلاء إيران المختلفون، “حماس” و”حزب الله” خصوصاً، خسائر فادحة، كما تم الكشف عن ضعف قدرات الجمهورية الإسلامية في الهجوم الجوي والدفاع الجوي. ولا يبدو أن دولاً كثيرة أخرى في المنطقة تشعر بالأسف حيال الانتكاسات التي لحقت بالنظام المترنح للمرشد الأعلى علي خامنئي.
على النقيض من ذلك، من غير المحتمل أن تكون الأخبار الآتية من أوكرانيا إيجابية. فقد تعهد ترمب مراراً وتكراراً بإنهاء الحرب هناك، ولكن من دون أن يحدد كيف سيحدث ذلك، والحروب معروفة بصعوبة إنهائها. بالاسترجاع، مر أكثر من ثلاثة أعوام بين مبادرة السلام الافتتاحية التي أطلقها الرئيس ريتشارد نيكسون عام 1969 والاتفاقية التي نال بموجبها وزير الخارجية هنري كيسنجر والجنرال الفيتنامي الشمالي لي دوك ثو جائزة نوبل للسلام. أما المفاوضات التي أدت في النهاية إلى تحقيق السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979، فاستغرقت أكثر من خمس سنوات.
في أوكرانيا، ستكون المفاوضات صعبة للغاية، جزئياً لأن طرفاً واحداً فقط هو الذي يحتاج بشدة إلى وقف إطلاق النار، وهو كييف التي يقترب جيشها بصورة خطرة من نقطة الانهيار. فالقوات الأوكرانية التي تعاني نقصاً في العديد والعتاد، منهكة على نحو كبير، ويرجع ذلك جزئياً إلى توغلها الجريء، ولكن المتهور ربما، في الأراضي الروسية. وليس من الواضح لماذا قد يدخل بوتين في مفاوضات سلام بينما تبدو قواته قريبة من تحقيق الفوز في كثير من المناطق على طول خط المواجهة. ويُذكر أن رفع إدارة بايدن للقيود على ما يمكن لأوكرانيا فعله بالأسلحة المقدمة من الولايات المتحدة جاء متأخراً جداً لتغيير الموازين. ومن ناحية تسليم الأسلحة، ما زالت روسيا تتلقى دعماً أكبر من حلفائها مقارنة بما تتلقاه أوكرانيا، فضلاً عن أن موسكو حصلت أيضاً على تعزيزات إضافية من الجنود من كوريا الشمالية.
في مواجهة هذا النوع من التحديات، ينبغي لترمب أن يستلهم من تجربة ريغان. في البداية، صعّد ريغان سباق التسلح مع السوفيات، فارتفع الإنفاق الدفاعي الأميركي بنسبة 54 في المئة بين عامي 1981 و1985. ونشر صواريخ نووية متوسطة المدى في أوروبا الغربية، وأطلق عام 1983 “مبادرة الدفاع الاستراتيجي” وهي عبارة عن برنامج لتطوير نظام الدفاع الصاروخي، وسلّح المجاهدين في أفغانستان الذين ألحقوا خسائر فادحة بالقوات السوفياتية التي غزتها عام 1979. وبصورة عامة، لم يتردد ريغان في استخدام القوة العسكرية الأميركية عندما رأى أن المصالح الأميركية مهددة. وعام 1983، أمر القوات الأميركية بغزو دولة غرينادا في الكاريبي، بعد أن انزلقت حكومتها الماركسية اللينينية إلى عنف داخلي. كما أمر بقصف ليبيا في أبريل (نيسان) 1986، رداً على تفجير ملهى ليلي في برلين الغربية أسفر عن مقتل جندي أميركي.
لكن ريغان لم يكُن دائماً من الصقور [متشدداً]. فهو لم يفعل شيئاً يُذكر رداً على فرض الأحكام العرفية في بولندا عام 1981. ووافق على خفض مبيعات الأسلحة إلى تايوان عام 1982. ولم ينتقم عندما فجر مسلحون شيعة مدعومون من إيران ثكنة أميركية في بيروت عام 1983، مما أسفر عن مقتل 241 فرداً من القوات المسلحة الأميركية كانوا يشاركون في مهمة حفظ سلام محكوم عليها بالفشل.
لكن أبرز ما يميز مرونة ريغان هو تحوله من سياسة حافة الهاوية إلى سياسة الانفراج عند التعامل مع غورباتشوف. فخلال المحادثات التي جرت في ريكيافيك عام 1986، كاد الاثنان يتوصلان إلى اتفاق للقضاء على جميع أسلحتهما النووية. وفي النهاية، تعهدا بتخفيض كبير في الصواريخ النووية المتوسطة المدى على جانبي الستار الحديدي. وكانت الخطوات التي اتخذها ريغان في ولايته الثانية جذرية لدرجة أنه تعرض لانتقادات شديدة من مهندسي سياسة الانفراج الأصليين، نيكسون وكيسنجر اللذين اتهماه بأنه تمادى كثيراً. بل إن كيسنجر وصف اتفاق ريغان وغورباتشوف في جلسات خاصة بأنه “أسوأ شيء حدث منذ الحرب العالمية الثانية”.
وأكثر ما يثير الإعجاب في التحول الواضح لريغان من سياسة حافة الهاوية إلى نزع السلاح بصورة كبيرة، هو ضآلة الصدى الذي لاقته هذه الانتقادات خارج صفحات المجلات المحافظة مثل مجلة “ناشيونال ريفيو”. فقد صدّق مجلس الشيوخ على معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى بغالبية 93 صوتاً مقابل خمسة. وحظي السلام الذي أنهى الحرب الباردة بشرعية واسعة قبل أكثر من عام من سقوط جدار برلين الذي قدم لريغان إثباتاً رمزياً على صحة نهجه.
لنعقد صفقة
في بداية ولايته الأولى، كانت الأولوية الأهم بالنسبة إلى ترمب في السياسة الخارجية التنافس مع الصين. لكن هذه المنافسة سرعان ما تحولت إلى احتواء ثم إلى مواجهة مباشرة في نهاية المطاف. ولم يكُن ترمب ينوي بدء حرب باردة ثانية، لكن استراتيجيته كشفت عن أن الحرب كانت بدأت بالفعل، ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى منطق استراتيجية الزعيم الصيني شي جينبينغ المتمثل في تحقيق التكافؤ مع الولايات المتحدة ثم التفوق عليها.
واليوم، تُشن الحرب الباردة الجديدة بلا هوادة في مجالات متعددة، من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، ومن الفضاء الخارجي إلى الفضاء الإلكتروني. لكن الخطر الأكبر على السلام العالمي يكمن بالتأكيد في شرق آسيا، حيث تشير التدريبات العسكرية الصينية إلى أن بكين تستعد لفرض حصار، أو “حجر” أكثر غموضاً، على تايوان في مرحلة ما خلال الأعوام المقبلة. وفي الوقت الحاضر، لدى الولايات المتحدة عدد محدود من الخيارات الجيدة للتعامل مع مثل هذه الحال الطارئة. ففي مقابلة أجريت في يونيو (حزيران) الماضي، صرح الأدميرال سام بابارو، قائد القيادة الأميركية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، بأنه في حال فرضت الصين حصاراً على مضيق تايوان، فهو ينوي “تحويل المضيق إلى جحيم خالٍ من البشر باستخدام عدد من القدرات السرية… حتى أتمكن من جعل حياتهم بائسة تماماً لمدة شهر، مما يمنحني الوقت الكافي لبقية الخطط”. لكن الولايات المتحدة لا تملك بعد المسيّرات البحرية وغيرها من الأسلحة التي يفكر فيها بابارو. وحتى لو كانت تمتلكها، فإن استخدامها ضد القوات البحرية الصينية قد يؤدي إلى تصعيد مخيف يتحول إلى حرب شاملة، مع إمكان حدوث مواجهة نووية. وأيّاً كان المقصود بـ”بقية الخطط”، فإن هذه العبارة لا توضح بأي شكل كيف يمكن أن تنتهي هذه المواجهة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والواقع أن تعهد ترمب يقوم على تجنب توريط الولايات المتحدة في مزيد من “الحروب الأبدية”، وقبل كل شيء منع اندلاع حرب عالمية ثالثة. وفي مذكراته، يصف جون بولتون الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي الثالث لترمب، كيف انحرف الرئيس مراراً وتكراراً عن نقاط الحديث المخطط لها عند اجتماعه مع شي بسبب رغبة ترمب في إبرام “الصفقة الكبرى” مع بكين، “الصفقة الأكثر إثارة والأكبر على الإطلاق”، على حد وصف ترمب. وتحقيقاً لهذه الغاية، كان ترمب على استعداد للتساهل مع بكين في الحرب التكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين من خلال تخفيف التدابير المتخذة بحق الشركات الصينية مثل “زد تي إي” ZTE و”هواوي”. وللسبب نفسه، كما يروي بولتون، لم يكُن ترمب مستعداً للضغط على الصين في شأن قضايا مثل قمعها للاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية في هونغ كونغ (“لا أريد التدخل. لدينا مشكلات تتعلق بحقوق الإنسان أيضاً”) واضطهادها للإيغور وسجنهم بصورة جماعية في شينجيانغ (وهو ما وافق عليه ترمب [وأيده] صراحة خلال محادثة مع شي).
تُشن الحرب الباردة الجديدة بلا هوادة في مجالات متعددة
في نظر ترمب، ربما تكون “الصفقة الكبرى” هي السبيل الوحيد لتجنب الاضطرار إلى بدء حرب قد لا تفوز بها الولايات المتحدة. يتذكر بولتون: “كانت إحدى المقارنات المفضلة لدى ترمب، هي الإشارة إلى طرف أحد أقلامه الحادة والقول ‘هذه تايوان’، “ثم الإشارة إلى مكتبه الرئاسي ‘ريزولوت’ [في المكتب البيضاوي] والقول، ’هذه هي الصين‘”. لم يكُن التباين في الحجم هو الأمر الوحيد الذي أزعجه. فقد قال ترمب لأحد أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين: “تايوان تقع على بعد قدمين من الصين. ونحن على بعد 8000 ميل. إذا شنت بكين غزواً، فلا يمكننا فعل أي شيء حيال ذلك”.
بغض النظر عن تصورات أعضاء فريق الأمن القومي الخاص بترمب، فإن الصفقة مع شي يجب أن تظل الهدف النهائي لترمب في ولايته الثانية. ويُذكر أن المشاركة الكبيرة لرجل الأعمال في مجال التكنولوجيا الفائقة إيلون ماسك في فترة ترمب الانتقالية تشير إلى اتجاه نحو الانفراج والتهدئة مع الصين لأن استراتيجية المواجهة لا تصب في مصلحة شركة ماسك لتصنيع السيارات الكهربائية، “تيسلا”.
لكن هذه الصفقة لا يمكن أن تكون بمثابة هبة مجانية [بمثابة تنازل]، تستفيد فيها بكين من تخفيضات التعريفات الجمركية من دون الحاجة إلى تفكيك نظام الإعانات الصناعية الشامل الذي تعتمده. ولا يمكن أن تسمح للصين باستئناف استغلال سلاسل توريد المنتجات العالية التقنية لأغراض التجسس وربما التخريب. ولكن سيكون من المنطقي، مثلما كان في الثمانينيات، أن تسعى القوتان العظميان إلى نزع السلاح، إذ إن سباق التسلح النووي الحالي غير متوازن وغير متكافئ، فأعداء واشنطن يوسعون ترساناتهم في حين لا تُطبق سياسات عدم الانتشار إلا على حلفاء الولايات المتحدة.
إن العنصر الحاسم في أي اتفاق بين الولايات المتحدة والصين يجب أن يتمثل في العودة للتوافق الذي ساد في سبعينيات القرن الـ20 حول تايوان، وهو توافق تقبل بموجبه الولايات المتحدة وجود “صين واحدة” بينما تحتفظ في الوقت نفسه بخيار مقاومة أي تغيير قسري للحكم الذاتي الفعلي في تايوان. والواقع أن زوال هذا “الغموض الاستراتيجي” لن يؤدي إلى تعزيز الردع الأميركي، بل سيزيد ببساطة من خطر حدوث “أزمة أشباه الموصلات في تايوان” على غرار أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962.
ولكن لا يمكن التوصل إلى اتفاق بين ترمب وشي إلا بعد أن تستعيد الولايات المتحدة موقعها القوي. بعد تصعيد التوترات حول التجارة عامي 2025 و2026، ما من شأنه أن يضر بالاقتصاد الصيني أكثر مما يضر بالاقتصاد الأميركي، مثلما حدث في فترة 2018-2019، يتعين على ترمب أن يتبنى موقفاً أكثر تصالحية تجاه الصين، تماماً مثلما ليّن ريغان بصورة كبيرة موقفه تجاه الاتحاد السوفياتي في ولايته الثانية.
مفاجآت مخبأة؟
في الواقع، تبدو السياسة الخارجية التي ينتهجها ترمب للوهلة الأولى أكثر خطورة من سياسة بايدن. لكن عدم فهم إدارة بايدن للردع كان السبب وراء سلسلة من الكوارث، أولاً في أفغانستان، ثم في أوكرانيا، ثم في إسرائيل، وقد خلق ظروفاً مواتية لما قد يشكل كارثة أكبر بكثير: الحصار الصيني لتايوان. وعلى نحو مماثل، فإن منتقدي ريغان في الداخل والخارج اتهموه بممارسة سياسات محفوفة بالأخطار، على رغم أن غزو السوفيات لأفغانستان الذي يُعدّ من أكثر اللحظات خطورة في الحرب الباردة، حدث في الحقيقة في عهد سلفه جيمي كارتر.
وعام 1980، كان كثيرون ليسخروا من أي توقع بأن ريغان سينهي الحرب الباردة وأنه حقاً سيحقق السلام من خلال القوة. واليوم، ستبدو فكرة أن ترمب قد يحقق إنجازاً مماثلاً سخيفة بالنسبة إلى كثيرين. لكن فهم التاريخ يكمن جزئياً في القدرة على تذكّر أن الأحداث الضخمة غالباً ما بدت بعيدة المنال حتى قبل أعوام قليلة من وقوعها. والنجاح في السياسة الخارجية من الممكن أن يعيد تشكيل سمعة الرئيس ويغيرها بما يتجاوز التوقعات. هذا ما حدث مع ريغان. وهذا ما قد يحدث مع ترمب.
مترجم عن “فورين أفيرز” في 7 يناير 2025
نيال فيرغسون هو زميل بارز بمنحة “عائلة ميلبانك” في معهد هوفر في جامعة ستانفورد الأميركية، ومؤلف كتاب “كيسنجر: 1923-1968، المثالي”.