This post was originally published on الإندبندنت عربية
<p class="rteright">كان روبرت كابلان من أشد الصحافيين الأميركيين التزاماً بدعم حرب العراق (ويكيبيديا)</p>
في وقت يتعرض فيه النظام العالمي الراهن لانتقادات حادة من رؤساء دول وحركات وكتاب ومفكرين داخل آسيا وأوروبا وأميركا اللاتينية وغيرها، وخلال وقت تظهر فيه تجمعات وتكتلات تطمح إلى زعزعة هذا النظام وتغييره واستبدال ما هو أفضل منه به، أو ترمي إلى ترشيده وتوجيهه إلى مزيد من العدالة، ثمة بالطبع، من يستميتون في الدفاع عنه من رؤساء دول وكتاب ومفكرين ومنظمات. وينضم إلى جهود الدفاع عن الوضع القائم الصحافي الأميركي روبرت دي كابلان بكتابه الصادر أخيراً عن دار “هيرست” في نحو 240 صفحة وتحت عنوان “الأرض الخراب: عالم في أزمة دائمة”.
كان روبرت كابلان من أشد الصحافيين الأميركيين التزاماً بدعم حرب العراق، ثم رافق القوات الأميركية في الفلوجة عام 2004، فشهد “ما هو أسوأ حتى من طغيان صدام حسين الغاشم، أي فوضى حرب يخوضها الجميع ضد الجميع” على حد قول جايسون كاولي (ذا تايمز- 19 يناير ’كانون الثاني‘ 2025). وخلص كابلان من مشاهدته للطائفية إذ تمزق العراق إلى أنه أخطأ التقدير في شأن حلم الميلاد الديمقراطي الذي أعتقد أنه سيتبع تغيير النظام وانهيار الدولة البعثية، “فالنتيجة التي توقعها لم تتحقق”، إذ تبينت من خلف الطغيان في العراق فراغات مؤسسية كاملة وتمثل “خطأ” كابلان على حد تعبيره، في أن تفكيره في عراق ما بعد صدام لم يكن مأسوياً بالقدر الكافي. فلما أدرك خطأه أصابه اكتئاب سريري وندم “أثقل نومي لعقود” بعد ذلك. وكتب كابلان عن صراعاته مع الصحة العقلية وإخفاقات سياسة التدخل الليبرالية الغربية التي وسمت أعوام حكم بوش الابن وبلير في كتاب “العقل المأسوي” الذي صدر عام 2023، ويذهب فيه إلى أن التشاؤمية قد تكون بناءة فتساعد الدول على اجتناب الكوارث. أما ما لم يقله كابلان لكنه واضح من كتاب “العقل المأسوي” فهو أن “خطأه” ذلك جعل منه كاتباً أفضل، فهو أشد حذراً وتواضعاً وشكاً في ذاته.
غير أن كابلان مثلما يتبين من “الأرض الخراب” خرج من حرب العراق بأسوأ درس يمكن استخلاصه، إذ بات يرى “أن النظام لا بد أن يعلو على الحرية” لأنه “في غياب النظام لا حرية لأحد”. ويكتب كاولي أن كل من قرأ كتاب “اللفياثان” لتوماس هوبز يعرف أنه دونما نظام يفرضه صاحب السلطان بالتراضي لا وجود “للفن أو الآداب أو المجتمع وهذا هو أسوأ ما في الأمر، إلا لحال مستمرة من الخوف وخطر العنف والموت، ولحياة الإنسان في عزلة وفقر وبغض ووحشية وقصر”. هي إذاً حجة كل طاغية، إما أنا أو الفوضى، ولكنها تأتي للمفارقة المريرة على لسان كاتب.
وليس خوف كابلان من الفوضى بجديد عليه فقد برز اسمه كما يكتب كاولي بمقالة “مجيء الفوضى التي نشرها في مجلة “ذي أتلانتيك” عام 1994 ثم توسع فيها فصارت كتاباً، وباتت “بصيرة القلق” بحسب تعبيره، هي مصدر إلهامه “إذ سبق كثيراً من الكتاب إلى القول إن تغير المناخ ونقص المياه وندرة الموارد وزيادة السكان وتنامي التمدن والمرض والهجرة الجماعية ستزعزع استقرار عالمنا خلال القرن الـ21. فلم يكن كابلان ممن آمنوا بأننا وصلنا إلى نهاية التاريخ، ناهيكم بأن نهاية الحرب الباردة تبشر بعصر سيطرة لليبرالية الغربية والسلام العالمي، فقد رأى الفوضى آتية وأصابه الخوف من جراء ذلك”.
لذلك، يطرح كابلان في كتابه الجديد بحسب ما يكتب جون إيكنبيري في استعراضه (فورين أفيرز – 2025) “رؤية سوداوية لعالم يمر باضطراب سياسي مستمر”، ويستعير كابلان عنوان كتابه من قصيدة “تي أس إليوت” الشهيرة عن انهيار الحضارة في غداة الحرب العالمية الأولى، ويرى أن الفترة المعاصرة لحظة مماثلة تضمحل فيها الأسس المؤسسية السياسية للنظام سواء داخل الدول أو في ما بينها. وفي ثيمة تتردد في شتى كتاباته يذهب كابلان إلى أن الفوضى -من العصور القديمة إلى الحديثة- تنحو إلى الانتشار حينما تختفي الهيراركية، ممثلة في النظامين الملكي والإمبراطوري وغيرهما من صور الهيمنة السياسية، فتنشأ فراغات في السلطة السياسية الشرعية سرعان ما تمتلئ بالفوضى والصراع. ولقد ماتت أنظمة الماضي الإمبراطورية والسيادية خلال القرن الـ20 بحربين عالميتين. وخلال القرن الراهن تمثل الصين وروسيا والولايات المتحدة آخر القوى الإمبراطورية الباقية، وكل هذه الإمبراطوريات تنحدر بطرق مختلفة، منذرة بحلول عصر ما بعد حديث قوامه الفوضى والاختلال. ويستحضر كابلان الفيلسوف الألماني أوزفالد شبنغلر وكتابه “انحدار الغرب”، في لومه للقوى التي تدمر الحداثة الليبرالية وتؤدي إلى اضمحلال وظائف النظام القديم المحققة للاستقرار، مهددة بتحويل العالم إلى أرض خراب باسم التقدم.
ومصداقاً لذلك يكتب روبرت كابلان أن “العالم يقف على حافة هاوية، فالولايات المتحدة هي التي أنقذت الحضارة الغربية بقوتها الاقتصادية في الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، ولكنها آنذاك كانت مسؤولة عن نصف التصنيع العالمي بينما هي الآن مسؤولة عن قرابة 16 في المئة فقط منه. ويبلغ إجمال دين أميركا القومي 36 تريليون دولار، ويزيد هذا الدين بمقدار تريليون دولار سنوياً. ولا يبدو أن الديمقراطيين أو الجمهوريين ينعمون ولو بالقدر الأدنى من الانضباط الذاتي المطلوب لوقف هذه النزاعات، ومثل هذه الأعباء والتعقيدات المالية كانت العامل في تراجع القوى العظمى والإمبراطوريات في الماضي، وانظروا إلى روما وإسبانيا في مطلع العصر الحديث، والإمبراطورية النمسوية المجرية وبريطانيا. وهذا كله مهم للغاية لأن القوى العظمى على مر التاريخ، راق لنا ذلك أم لم يرق، هي التي حافظت على مظهر النظام العالمي. وبضعفها، تتسلل الفوضى لا محالة. وهذه هي الخطوط العريضة التي شكلت الانتخابات الأميركية الأخيرة محض حلقة واحدة منها”.
ويكتب كاولي أن كابلان يبدأ كتابه بالرجوع “على سبيل التحذير” إلى ألمانيا في عهد جمهورية “فايمار”، وهي الجمهورية التي نشأت في ألمانيا خلال الفترة من 1919 إلى 1933 نتيجة خسارة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وكانت “المهد الذي أنتج الفاشية والشمولية”. ويمضي كاولي فيكتب أن كابلان يعتقد أن انهيار الدولة الألمانية ما بعد الإمبراطورية وصعود هتلر يمثلان درسين مهمين للعالم المضطرب اليوم. ويرى، في ما أعتقد، أننا لا ينبغي أن نتوقع المستقبل القريب أن يكون شبيهاً بالماضي أو الحاضر “فعلينا أن نضع في الحسبان أن أي شيء تقريباً يمكن أن يحدث لنا”، وذلك هو نتيجة تأمله للتجربة الألمانية في ما بين الحربين، وهذه هي الفائدة التي نغتنمها من “فايمار” التي “لم يكن بها حارس يحافظ على السلام بين أجزائها”.
“لا بد إذاً من حارس يفتقر إليه نظامنا متعدد الأقطاب اليوم الذي يتداعى فيه ما يعرف بالنظام الدولي القائم على القواعد، في ظل تعهد إدارة دونالد ترمب الجديدة بالنزوع إلى الانعزالية، واضطرار الدول الأوروبية الآن أو عما قريب إلى مزيد من الإنفاق على أمنها، وازدياد نجاعة وسائل الاتصال في العالم بما يجعل الصراعات تزداد مأسوية، فلم يحدث إلا نادراً أن كانت السياسات وعواقبها تجري بهذا الاحتدام على نطاق الكوكب كله”.
غير أن برونو ماسياس يطعن في حجة “فايمار” هذه فيكتب في استعراضه للكتاب (ذا نيو ستيتسمان – 22 يناير 2025) أن جمهورية “فايمار” الألمانية كانت دائماً ذخيرة حجاجية للمحافظين من شتى الأنواع، إذ يجعلونها عبرة “للمجتمع إذ يغفل عن حاجته إلى النظام وقوة الدولة فيكون مصيره أن تحل عليه سلطة دولة في أكثر صورها انتقاماً وقسوة”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع أن ماسياس يتفق مع كابلان في فرضيته، إذ يرى أن الديناميات السياسية الأساس في النظام العالمي شبيهة بالديناميات داخل دولة واحدة، ويرى أيضاً أن اللحظة الراهنة في السياسة العالمية شديدة الثورية، لكنه يرى أن “مشكلة توصيف فايمار هو أنه يصلح تحذيراً أكثر مما يصلح أداة للتحليل، فلو أن العالم بحق في طريقه إلى فايمار فمن الخير له أن يبطئ ويؤوب إلى اتزانه، ويكف عن تمزيق نسيج نظامه القائم”، لكن “يجدر بكابلان أن يعلم أن النظام العالمي اليوم بالغ الضيق، يقصي أكثر مما يضم. ولو أن كابلان معني حقاً بالنظام فخير له أن يبدأ بغزة التي اتبعت فيها أميركا، وهي القوة الحاكمة في العالم، سياسة تدمير عمدي مورست باسم رؤية مشيحانية، وفي سياق ذلك مزقت النظام القانوني الدولي تمزيقاً، وغرست بذور كراهية ستدوم 100 عام. لكن “الأرض الخراب” يتجاهل ذلك، ولا يشير إلى غزة إلا إشارة عابرة مع أوكرانيا بوصفهما محض نموذجين للصراع الإقليمي، في حين أن الكتاب يقدم أوكرانيا بوصفها نقطة تحول إذ تبلغ “حرب أوكرانيا من الضخامة أن مزيداً من أشهر الصراع فيها قد تؤثر في أوروبا وأوراسيا لأعوام وعقود قادمة”.
“يدين كابلان إفراط روسيا في نزعتها القومية والعسكرية، ولا يدين الظواهر نفسها عند إسرائيل. فلماذا؟ أفترض أن السبب في ذلك أن إسرائيل “منا” في الغرب أما روسيا فـ”منهم”. ولذلك أيضاً يذكر كابلان الـ1200 الذين ماتوا لإسرائيل خلال السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، لكن ما من كلمة واحدة في كتابه عن عشرات آلاف القتلى من المدنيين الأبرياء الأطفال والرضع الذين لقوا مصرعهم داخل غزة. ويمضي ماسياس فيأخذ على كابلان أنه يقصر نقده في الكتاب على دونالد ترمب في حين “كان يجدر به أن يبدأ ببايدن الذي جاءت رؤيته للشرق الأوسط الجديد غير متضمنة لغزة. لكن كتاب ’الأرض الخراب‘ معني بترمب من دون بايدن”.
وعلى رغم ذلك يؤكد ماسياس أن “الأرض الخراب” كتاب مهم “يكشف الجناح الفكري للمحاولة الأخيرة للحفاظ على النظام القائم في مواجهة اضطراب عالمي. وخير فهم له في هذه الحدود هو فهمه لا باعتباره جزءاً من فايمار عالمية، وإنما باعتباره جزءاً من ثيرميدور عالمية، أي فترة التراجع عن الأهداف والاستراتيجيات الراديكالية خلال الثورة الفرنسية”.
وفي مقالة مأخوذة من كتاب “الأرض الخراب” (نيوستيتسمان – الثامن من يناير 2025) يستعرض كابلان بعض أوجه الضعف التي تعتري الولايات المتحدة حالياً، بما ينذر بانحدارها ويهدد بالتالي النظام العالمي القائم الذي يرى ضرورة الحفاظ عليه. لكنه يرى أن القوى المنافسة للولايات المتحدة هي أيضاً “في حال انحدار”، فـ”الظروف الاقتصادية في الصين مزرية. فعشرات الملايين من الوحدات السكنية حديثة البناء فارغة في بلد يتناقص عدد سكانه، وفقاً لتقرير صحيفة “وول ستريت جورنال”، و”في كل شهر تستمر فيه حرب أوكرانيا، تضعف قدرة روسيا على التأثير والسيطرة على القوقاز وآسيا الوسطى السوفياتية السابقة وسيبيريا والشرق الروسي الأقصى. ولقد كانت روسيا دائماً دولة ضعيفة المؤسسات. ومع تراجع القوة الروسية، قد تصبح نسخة منخفضة السعرات الحرارية من يوغوسلافيا السابقة”، “أما عن أوروبا، فهي في منطقة القتال تواجه روسيا العدوانية غير المستقرة من الشرق، والهجرة المستمرة من المجتمعات ذات معدلات المواليد الأعلى في أفريقيا والشرق الأوسط إلى الجنوب والجنوب الشرقي”، ويعرج كابلان إلى مجموعة “بريكس بلاس” التي تثير القلق لدى كثير من الحريصين على نفوذ الغرب في العالم، فيقول إن “الناس يتحدثون بلا مبالاة عن دول ’بريكس بلاس‘ وملئها الفراغ العالمي في السلطة. لكن ’بريكس بلاس‘ شأن حركة عدم الانحياز أثناء الحرب الباردة، لا تكاد توجد خارج مؤتمراتها، بما يعني أن المنظمة دونما وسائل إعلام عالمية تحضر تلك المؤتمرات وتغطيها هي منظمة عديمة المعنى عملياً”.
ويمضي مقال روبرت كابلان إلى قوله إن “المستقبل قد لا يشهد انحدار أميركا بالذات على رغم كل أسباب الانحدار، وإنما انحدار تدريجي لجميع القوى العظمى، بما يؤدي إلى وضع جيوسياسي أكثر اضطراباً وتزعزعاً بصورة عامة. ولأن التكنولوجيا قلصت الجغرافيا فشكلت كوكباً أكثر قلقاً واختناقاً، فإن الشعور بالأزمة وعدم الاستقرار سيكون في المستقبل أكبر مما نستطيع أن نتخيله، أو نستطيع التعامل معه”. غير أنه يعود فيطمئن قراءه الأميركيين أو لعله يطمئن نفسه ويتسول لها سويعات نوم هادئ خال من وخز الضمير، فيكتب أن “الولايات المتحدة حتى في ظروفها الحالية لا تزال أقوى مؤسسياً واقتصادياً من القوتين العظميين الأخريين، روسيا والصين. وبسبب ديمقراطيتها الفتية والمعيبة أيضاً، فإنها قادرة على التجدد باستمرار”.
غير أن ماسياس يلفت النظر إلى “تناقض قاتل” في كتاب كابلان وفي طرحه كله إذ يكتب أنه من السهل على كابلان “أن يرى في انحدار الغرب نهاية للحضارة نفسها، التي لا يوجد في نظره سواها. فلا تكاد الهند تظهر في الكتاب إلا نحو خمس مرات. ولا ذكر أيضاً لجنوب شرقي آسيا على رغم أنه مركز ابتكار ونمو، والإشارات إلى فيتنام لا تعدو حرب فيتنام. ولا تزال أفريقيا تظهر في صور العشوائيات وأكوام القمامة على رغم أن مدناً من قبيل نيروبي وأكرا أفضل إدارة من ديترويت أو سان فرانسيسكو. ويبدو أن كابلان غافل عن تناقض قاتل في كتابه “فلو أن غالبية العالم العظمى خراب وكوارث، فهذا يظهر الاحتياج إلى نظام عالمي جديد وليس إلى الحفاظ على النظام الحالي”.
عنوان الكتاب: Waste Land: A World in Permanent Crisis
الكاتب: Robert D Kaplan
الناشر: Hurst